بعد انتهاء مسرحية “تكبّت الخيل على الخيل” التي عُرضت بالمسرح الكبير بنمسيك بالدار البيضاء، مساء يوم السبت 16 نونبر الجاري، وقفتُ طويلا أصفق على فريق العمل، وعلى شخصية السويلمي، الذي أدى دور “المخزني” المقرب من القائد عيسى بن عمر العبدي.
على مدى ساعة وعشر دقائق، كانت شخصية السويلمي مُلهمة لسيرورة الحياة في المسرحية، تمنحها الدهشة والضحك من عمق المأساة، كما تملأ البياض الذي يطارد الحكاية في بُعدها التاريخي، ببُعد جمالي متحرك. وتساءلتُ من يكون هذا الممثل “المدهش” بأدائه، والذي لم يسبق لي مشاهدة عمل له في المسرح أو السينما، ولربّما لأني لستُ متابعا مجتهدا لما يجري حولي في الفن. وقد رأيتُ في هذا الممثل، بقدراته على الحركة والصوت والتشخيص ورفع منسوب الحرارة، في لحظة من اللحظات، صورة مغربية لنجيب الريحاني المصري أو صيغة إضافية للمغربي محمد بسطاوي، والمقارنة فقط من أجل تقريب الصورة، لا غير.
فكرتُ سريعا والمسرحية في بدايتها، السؤال عن من يكون هذا الممثل الذي لم يترك للملل فرصة. التفتتُ يسارا فوجدتُ طفلا، فوق العاشرة من عمره، وبجواره تجلس أمه، ثم التفتتُ يمينا مختلسا النظر قبل أن أعود إلى متابعة المسرحية، فلمحتُ سيدة دون الثلاثين من عمرها، وسألتها بدون مقدمات:
ـ ما اسم هذا الممثل؟ (وأشرتُ بيدي، بكامل أصابعها، نحو السويلمي وهو يؤدي مشهدا أمام القايد عيسى).
ظلت صامتة.. لم أسمع ردّها، ولو بالنفي على سبيل المجاملة، فحوّلتُ رأسي نحوها ببطء وحذر، وبلامبالاة، لأجدها نائمة، دافئة في عباءة خريفية بلون بنفسجي وقميص أزرق غامق.
***
مسرحية “اتْكبَّتْ الخيل على الخيل” إبداع من تأليف الكاتب المسرحي سالم اكويندي، وقد صدرت في كتاب منذ سنوات. عالج فيها الكاتب حكاية من حكايات الزمن المغربي والتي تتجدد في كل عصر، قصة عن سلطة الفن في مواجهة السلطة بمفهومها المادي؛ وهو ما يستدعي الدور المتعدد لفن العيطة بالمغرب، بين خلق البهجة والتعبير عنها وبين حضور الذات في قوتها تعبيرا عن الرفض والاحتجاج والنقد. ولعل الاشتغال على هذا الملمح أغرى المثقفين في السينما والتلفزيون والمسرح والرواية والبحث الجامعي في الكتابة عن فن العيطة بشكل عام.
ويعتبر سالم اكويندي واحدا من كُتّاب المسرح المهتمين ببناء تصور جمالي للثقافة الشعبية بوصفها مدخلا للهوية والتاريخ، وقد توفق في صوغ حكاية خربوشة في علاقتها بقائد عبدة في نهاية القرن التاسع عشر.. وهي الحكاية التي لم يكن من ورائها تدوير مأساة شاعرة ومغنية مغربية في لحظة صعبة من تاريخ المغرب، وإنما من أجل بسط القضايا والقيم التي نحن في حاجة إلى النظر فيها ومساءلتها باستمرار.
وقد استطاعت فرقة محترف شمس للمسرح تشغيل النص بجمال اللعب والحوار والغناء والحركة، وتناغم شخصيات (الرواية): القايد عيسى وحادة وفاطنة والبيضة والسويلمي (عبد اللطيف خمولي ومروة شوقي وفاطمة الزهراء هدالي وجميلة شارق والسويلمي)
أعتقد أن حكاية خربوشة، في بُعدها الرومانسي والتراجيدي، قد استكملت دورتها خلال أربعة عقود من تناولها بالمعالجة في أشكال وألوان لم تخرج عن الإطار المرسوم لها منذ البداية؛ وهو ما يدعونا اليوم إلى مراجعة أخرى تخلخل المعطيات الجاهزة، خصوصا أننا ننظر إلى الحدث مفصولا عن السياق العنيف والمتحوّل والملتبس الذي طبع في تلك الفترة.. وقد حان وقت قراءة الحدث والحكاية ضمن التاريخ السياسي والاجتماعي للمرحلة، ليس انتصارا لخربوشة وإدانة قاتلها، وإنما لفهم الأعطاب التي قيّدت المجتمع ودور الفن.
***
عاودتُ السؤال لجارتي التي فاجأتني وهي تضحك من مشهد للسويلمي، بعدما استوعبتُ أنها تنام وتستفيق وتتابع المسرحية بطريقتها:
ـ هل تعرفين من يكون السويلمي؟
قالت بأدب وهي تبتسم دون أن تنظر نحوي:
ـ إنه السويلمي وليس شيئا آخر !!
واصلت التفرج، وقد ألجمتُ نفسي من الردّ عليها بالقول أن تعود إلى نومها لعلها ترى الجواب في حلم سريع؛ لكنها فاجأتني وهي تسألني سؤالا من نفس جنس جوابها:
الممثل الطويل، عيسى بن عمر .. من يكون؟
قلت بدون تفكير:
ـ إنه عيسى بن عمر الحقيقي، الفرق بين القديم وهذا في الطول واللباس والحذاء.
لم أتوقع منها أن تضحك بصوت مسموع، وقد شعرتُ بالحرج حينما لاحظت أن مروة شوقي (حادة) قد ارتبكت للحظة قبل أن تستعيد توازنها، فوق الخشبة، مثل فراشة تطوف في أرض تحترق برمادها.
أعتذر. قالتها بصوت خافت، ثم نامت.
كان تنفسها مهموسا يُنبئُ عن استغراقها في النوم، فأدرتُ وجهي نحوها في اللحظة التي كانت حادة تتلو نشيدها الأخير.. نظرت إليها متحققا من ملامحها التي بدت لي هذه المرة مألوفة، دون أن أستطيع تبيّن أين رأيتها.. في مسرحية أو فيلم أو في كتاب.. ابتسمتُ وأنا أشدّ على رأسي كيف لي أن أنسى الوجوه والأسماء . فجأة فتحتْ عينيْها بسرعة، فوجدتني أنظر إليها وأنا أعتصر ذاكرتي، فابتسمتْ وقالتْ لي وكأنها أدركتْ ما أنا فيه:
ـ لعلك تتساءل من أكون؟ .. أنا حادة الزيدية التي كنتَ تتابع فصلا من حكايتها!!
ثم قامت، مع انتهاء العرض المسرحي، واختفت سريعا فيما بقيتُ واقفا أصفق مع باقي الجمهور.
***
انتهت المسرحية.. وخلال تقديم الممثلين، علمتُ أن السويلمي هو ذاته مخرج المسرحية حسن لهبابطة، المؤلف والممثل والباحث في التراث المغربي. وبقدر ما كنتُ سعيدا بما قدّمه هذا الفنان عجبتُ من غيابه في السينما والتلفزيون.
في تحيته للجمهور، تحدث سالم اكويندي عن الآفاق الممكنة للكتابة الدرامية؛ وكذلك تحدث لهبابطة، الذي سمح لروحه وروحانياته البوح بمطلق الحب للمسرح وثقافات العالم السفلي الرحب.