قال الدكتور المنتصر السويني، باحث في العلوم السياسية والمالية العامة، إن المؤسسة الملكية في عهد الملك محمد السادس اتبعت إستراتيجية “قلة وجدية الكلام”، ما يعكس نهجًا رائدًا في التواصل السياسي، مضيفا أن هذه الإستراتيجية أظهرت فعالية كبيرة من خلال التركيز على تزامن الخطاب الملكي في افتتاح السنة التشريعية مع ترؤس الملك اجتماع المجلس الوزاري، ما ساهم في تحديد الأهداف الماكرو سياسية ووسائل تنفيذها.
وأضاف السويني، ضمن مقال معنون بـ”المؤسسة الملكية ورسائل الدخول السياسي”، توصلت به هسبريس، أن هذا الربط بين القول والفعل يعكس استجابة للانتظارات الشعبية، ويعزز من فاعلية النظام الملكي في استيعاب التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، موردا أن الخطابات الملكية تؤكد على وحدة المغاربة وتعزيز القضايا الوطنية، وخاصة قضية الصحراء، باعتبارها موضوعًا موحدًا يجمع بين جميع فئات المجتمع.
وأبرز الباحث ذاته أن الملك محمدا السادس من خلال مخاطبة الشعب بشكل مباشر يسعى إلى تعزيز اللحمة الوطنية وتقوية التماسك الاجتماعي في وجه التحديات المختلفة؛ وهذا التوجه يهدف إلى الانتقال من التركيز على المصالح الفئوية إلى تبني رؤية شاملة تعزز من المصلحة العامة.
نص المقال:
في البداية يجب التأكيد أن ميزة المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس أنها اختارت الاشتغال من داخل مربع “قلة وجدية الكلام الملكي”. إستراتيجية قلة وجدية الكلام الرئاسي نظّر لها الخبير الفرنسي في التواصل ومستشار الرؤساء الفرنسيين فرانسوا ميتران وجاك شيراك -جاك بلهان- هذا الأخير كان يؤكد على فعالية إستراتيجية الصمت الذي يسبق التدخلات القوية للرؤساء.
العقل الدستوري المغربي عمل كذلك على الربط الزمني ما بين زمن القول المرتبط بالخطاب الملكي في افتتاح السنة التشريعية، وزمن تحديد الوسائل المرتبطة بتنفيذ القول الملكي من خلال ترؤس الملك اجتماع المجلس الوزاري المتعلق بتحديد التوجهات العامة لمشروع قانون المالية، وبالتالي عمل العقل الدستوري المغربي على الجمع بين ثنائية “القول-وسائل الفعل”، وعمل على ربطها كذلك مع زمن الدخول السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي الذي يتميز بمستوى مرتفع للانتظارات الشعبية.
الترابط الزمني ما بين ثلاثية “الخطاب الملكي في افتتاح السنة التشريعية -ترؤس الملك اجتماع المجلس الوزاري المتعلق بتحديد التوجهات العامة لمشروع قانون المالية -الانتظارات الشعبية عند كل دخول سياسي ومالي”، جعلت من شهر أكتوبر في المغرب الشهر الذي يتم فيه العمل على خلق تناسق وتكامل ما بين المستوى-الأول- الأيديولوجي المرتبط بالأهداف الماكرو سياسية (التوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة، المعبر عنه من خلال الخطب الملكية بالأساس) والمستوى-الثاني- التكنوقراطي الذي من المفروض ان يفصل الوسائل التقنية المتعلقة بالتنفيذ (ترؤس الملك اجتماع المجلس الوزاري الذي من خلاله يتم تحديد التوجهات العامة لمشروع قانون المالية) والمستوى -الثالث-المرتبط بالواقع واليومي والمعاش، الذي يهم بالأساس انتظارات المواطنين من الحاكمين عند كل دخول سياسي.
1) الخطاب الملكي والتأكيد على ترسيخ فعالية نظام اتخاذ القرار الإستراتيجي
اختارت المؤسسة الملكية أن توجه الخطاب الذي ألقته بمناسبة افتتاح السنة التشريعية من داخل مربع الملك باعتباره رئيس الدولة (خصوصا أن الفصل الثاني والأربعين يتيح للملك الاشتغال من داخل مربع رئيس الدولة أو من داخل مربع الملك باعتباره الحكم بين المؤسسات).
اختيار الملك توجيه الخطاب الملكي من داخل مربع الملك باعتباره رئيس الدولة يترسخ من خلال ما ورد في الخطاب، وخصوصا: “لقد قلت منذ اعتلائي العرش…”. هذا المربع كان يعني قوة القرار وبعبارة المؤرخ الفرنسي ميشيل وينوك -رأس هرم الدولة الذي يوجه ويقرر- كما أن المؤسسة الملكية كانت تعني أن النجاح اليوم مرتبط بخلق طريقة جديدة، أفق جديد، هدف جديد، يعطي للقرار بعدا مرتبطا بالتغيير والتحديث (…سنمر في قضية وحدتنا الترابية من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير، داخليا وخارجيا…). لم تكتف المؤسسة الملكية بقوة القرار والقرار الذي يحدث تغييرا، بل أرادت كذلك التأكيد على أن القرار اليوم يقاس بمدى فعاليته وبنوعية النتائج التي يحققها على أرض الواقع (…وها هي الجمهورية الفرنسية تعترف بسيادة المملكة على كامل تراب الصحراء، وتدعم مبادرة الحكم الذاتي…)، وبالتالي كانت المؤسسة الملكية تؤكد صحة مقولة أليكس دي توكفيل -السلطة المركزية يجب أن تكون قوية وفعالة-.
والعنوان الذي اختارته المؤسسة الملكية لهذا الدخول المؤسساتي هو التقرير بشكل مختلف من خلال ثنائية “التغيير-النجاح”.
يحسب للفيلسوف بول ريكور العمل على تحديد ما يطلق عليها -فلسفة الإرادة- التي من خلالها حاول التفريق بين -الرجل العاجز- و-الرجل القادر-. كما أن الفيلسوف بول ريكور من خلال التنظير لفلسفة الرجل القادر كان يركز على العمل وعلى الفعل.
من خلال تركيز الخطاب الملكي على ثنائية التغيير والنجاح كانت المؤسسة الملكية تضع نفسها من خلال قوة النتائج المحققة داخل مربع -المؤسسات القادرة- وبالتالي ترسل إشارات لباقي المؤسسات تتمثل في أن بناء المغرب القادر سيتم من خلال العمل الدؤوب للمؤسسات القادرة، وأن وحدها المؤسسات القادرة والفاعلة من باستطاعتها نقل مغرب ومغاربة القرن الواحد والعشرين من مربع -المتفرجين- إلى مربع -الفاعلين-.
2)الخطاب الملكي وترسيخ قاعدة أن المغرب يكبر من خلال الحديث الموجه إلى كل المغاربة
الخطاب الملكي من خلال الحديث الموجه إلى الشعب الكلي (حضرات السيدات والسادة البرلمانيين المحترمين، يسعدني أن أخاطبكم اليوم، في افتتاح هذه السنة التشريعية، ومن خلالكم مختلف الهيآت والمؤسسات والمواطنين، بخصوص التطورات الأخيرة لملف الصحراء المغربية، باعتبارها القضية الأولى لجميع المغاربة…) كان يؤكد على قوة المغرب التي تكبر وتترسخ أكثر، في اللحظات التي يتم الحديث فيها إلى كل المغاربة، وهنا نذكر بما سبق وقاله الروائي والسياسي الفرنسي -أندريه مالرو- “فرنسا لا تصير كبيرة إلا عندما تتحدث إلى كل الفرنسيين”.
حديث الخطاب الملكي عن الإنجازات المرتبطة بقضية المغاربة الأولى، وهي قضية الصحراء، كان يستهدف إعادة المغاربة إلى مربع القضايا الجامعة والقضايا الوطنية والقضايا التي توحد التماسك الاجتماعي والتماسك الوطني. مخاطبة المؤسسة الملكية الشعب السيد والشعب المكون من المواطنين (وممثليهم) والمكون من النساء والرجال الذين يريدون صياغة مصيرهم المشترك كانت تستهدف ترسيخ وتعزيز لحمة التضامن والوحدة الوطنية، لأنها الوحيدة التي تصنع قوة الوطن.
يقول الاقتصادي نيكولاس بافيريز: “الديمقراطية لا يمكن حصرها في مجموعة من المساطر أو في طريقة معينة من التداول، بل إن مرحلة الأزمات والاضطرابات تفرض وجود الأساسات الفعلية وقاعدة القيم الجماعية للوطن، وتفرض كذلك تعزيز المشروع التاريخي الوطني”، لهذا فإن الدفاع عن الوحدة الترابية يعتمد أساسا على إعادة توحيد الجسم الاجتماعي من أجل تقوية صورة ونفوذ الدولة قاريا ودوليا من أجل تصعيد المغرب وتحسين موقعه.
لهذا فإن مخاطبة الشعب السيد عملت فعليا على نقل مستوى الخطاب في المغرب من مربع التفرقة والخلاف إلى مربع الوحدة والإجماع، خصوصا أن المغرب مؤخرا عاش على وقع الاحتجاجات من طرف الشعب الفئوي والشعب المهتم أكثر بالانتظارات الاقتصادية والاجتماعية، وخصوصا ما يطلق عليه “شعب الأنظمة الأساسية”.
يحسب للخطاب الملكي من خلال الحديث عن القضية الجامعة أنه عمل على نقل المغرب والمغاربة من مربع مغرب المصالح الفئوية ومغرب الأنظمة الأساسية إلى مغرب القضايا الوطنية ومغرب المصلحة العامة ومغرب الشعب السيد. وبالحديث عن النتائج المرتبطة بالقضية الوطنية الأولى كان الملك يعزز مربع المصلحة العامة أمام مربع المصالح الفئوية ومربع المصالح الشخصية، وقوة المؤسسات اليوم تقاس بمدى قدرتها على تعزيز مربع المصلحة العامة أمام مربع المصالح الفئوية ومربع المصالح الشخصية.
3) الخطاب الملكي وترسيخ خطاب العقل والقوة الهادئة
جاء الخطاب الملكي في افتتاح الدورة الخريفية في ظرفية دولية خطيرة تتميز بالحروب والمواجهات، وبالتالي انتصار منطق الحرب على منطق العقل. الخطاب الملكي الأخير وإن تعلق موضوعه بالقضية الأولى للمغاربة، وهي قضية الوحدة الترابية، وما تتطلبه من قوة وحزم، إلا أن المؤسسة الملكية أرادت التأكيد من جديد على أنها تختار التعامل مع متطلبات تعزيز السيادة المغربية من داخل مربع العقل، وأنها تنتمي إلى معسكر العقل وتمتلك أجندة تنتمي إلى منظومة السياسة الهادئة والمعتمدة على الأفكار، رغم الظرفية الدولية التي تتميز بسيادة صوت المدافع وهدير الطائرات وأصوات الأحذية العسكرية التي تنشر الدمار وتدمر الثروة الوطنية.
وبالتالي يحسب للمؤسسة الملكية بالمغرب في هذه الظرفية الدولية المتميزة بسيادة منطق الحرب ابتعادها عن الخطابات التي تنشر الخوف وتعمم التشاؤم واليأس، وإصرارها على العمل من داخل مربع العقل من خلال ترسيخ الخطابات التي تطمأن وتنشر التفاؤل وتعزز الثقة في السياسة من خلال ثنائية الأهداف والنتائج.
4)ثنائية الخطاب الملكي واجتماع المجلس الوزاري تجيب عن السؤال الأساسي في السياسية: أين نتجه؟ وما هو الهدف؟
في نقده لتجربة ماكرون الرئاسية سيؤكد الباحث في علم السياسة ورئيس مركز دراسات الحياة السياسية الفرنسية رونالد كايرون أن الفرنسيين والباحثين في البداية كانوا يطرحون السؤال هل هناك قائد؟ أما الآن فإن السؤال الملح والأساسي يتمحور حول: إلى أين يتجه القائد؟ وأي طريق يسلك هذا القائد؟ وإلى أين يقود الوطن؟.
يحسب للعقل الدستوري المغربي، من خلال دسترة خطاب افتتاح السنة التشريعية، وكذلك من خلال دسترة التوجهات العامة لمشروع قانون المالية في بداية شهر أكتوبر من كل سنة، العمل على دسترة الأهداف الماكرو سياسية، والوسائل التقنية المتعلقة بتنفيذ هذه الأهداف، سواء في شقها السنوي أو في شقها المستقبلي، ويحسب له كذلك العمل على ترسيخ ما سبق وأكد عليه السياسي الفرنسي -مانديس فرانس- من أن الحكم هو الاختيار وليس هو الصرف.
أولوية الاختيار من خلال تحديد الأهداف كانت تعمل على توضيح الأهداف والطريق التي تقود إلى تحقيق هذه الأهداف.
من خلال الربط الزمني بين ثنائية الخطاب الملكي في افتتاح السنة التشريعية، الذي يحدد التصورات الماكرو سياسية (وقد يعلن كذلك عن ملامح السياسة الإستراتيجية العامة للدولة)، واجتماع المجلس الوزاري لمناقشة التوجهات العامة لمشروع القانون المالي، وبالتالي مناقشة الوسائل التكنوقراطية والمالية التي تمكن من تنفيذ التصورات المرتبطة بالمستوى التقريري الأول، كان العقل الدستوري المغربي يستهدف ترسيخ الثلاثية التدبيرية الذهبية المعتمدة على الوسائل والأهداف والنتائج.
الثلاثية الذهبية المعتمد على الربط بين الوسائل والأهداف والنتائج مكنت المغرب من امتلاك رؤية واقعية وفعالة، وجعلته قادرا على الاشتغال من داخل مربع الممكن.
إبداع المؤسسة الملكية المغربية في الاشتغال من داخل مربع الممكن، من خلال ترسيخ الثلاثية الذهبية (الوسائل-الأهداف-النتائج) جعل المغرب ينجح في الإجابة عن سؤال إلى أين نتوجه؟ وسؤال ما هي الوسائل والإمكانات التي تمكننا من النجاح في الوصول إلى الهدف؟.
الخلاصة:
الوضوح والجدية التي تطبع تحديد الأهداف والتصورات الماكرو سياسية، وكذلك الوسائل التقنية واللوجستيكية المرتبطة بتنفيذ التصورات الماكرو سياسية، أي العمل المنجز على مستوى الثنائي المكون من المؤسسة الملكية ومؤسسة مجلس الوزاري، يرسخ التفاؤل المرتبط بزمن الدخول السياسي والاجتماعي والمالي في شهر أكتوبر؛ لكن السؤال العريض الذي يطرح نفسه بإلحاح مرتبط بمدى قدرة الثنائي المكون من الحكومة والإدارة وباقي المؤسسات المكلفة بالتنفيذ على النجاح في التنزيل، ما يضعنا أمام احتمالين: الاحتمال الأول مرتبط بحسن النية، وبالتالي بالفرضية التي تؤكد المقولة -الجيد يوجد في التفاصيل – وبالتالي الجيد سيبدعه كذلك المكلف بالتفاصيل (وهنا نستحضر مقولة نابليون -عندما أصدر أمرا لأحد الوزراء فأنا أترك له حسن البحث عن كيفية التنفيذ الجيد-). أما الاحتمال الثاني فيبقى مرتبطا بمقولة -الشياطين في التفاصيل -وبالتالي التنفيذ السلبي، والتنفيذ الذي يأخذ مسارا عكسيا للتصورات والأهداف المسطرة ويعطي بالتالي نتائج عكسية.
يحسب للسياسي وعضو المجلس التأسيسي الإيطالي ‘يكنازيو سيلون التأكيد على أن الدولة في مرحلة التنزيل والتنفيذ تؤكد توفرها على يد طويلة ويد قصيرة: الطويلة تستعملها للأخذ وهي تجري في كل الاتجاهات والمسافات سواء البعيدة أو القريبة، بينما اليد القصيرة تختص بالعطاء، ولكنها للأسف لا تهتم إلا بالقريبين والمقربين-، وبالتالي الحكومات التي تتوفر على يد طويلة ويد قصيرة هي حكومة فاشلة في تنفيذ التصورات المرتبطة بالمستوى الماكرو-سياسي بشكل متوازن ويخدم المصلحة العامة.
حسن تنفيذ تصورات المستوى الماكرو اقتصادي، وحسن تنفيذ التوجهات العامة لمشروع قانون المالية، وحسن تنزيل المصلحة العامة، يعني أن تتوفر الدولة على يدين طويلتين متوازنتين.
تنزيل الدولة الاجتماعية يعني أن تلعب وزارة المالية الدور الفعلي لوزارة القدرة الشرائية، ويعني كذلك أن الحكومة ليس المفروض فيها فقط أن تتوفر على يدين طويلتين، بل عليها كذلك مساعدة المجتمع على تحمل الخسائر المرتبطة باليد الخفية للسوق، وكذلك اليد الثقيلة للضرائب (كما سماها الكاريكاتير الفرنسي كزافيي كورص).
وفي الأخير فإن المغرب اليوم مفروض عليه النجاح في خلق التوافق والانسجام بين الأزمنة الثلاثة، زمن القول المرتبط بالخطاب الملكي، وزمن تحديد الوسائل المرتبطة بتنفيذ القول الملكي من خلال ترؤس الملك اجتماع المجلس الوزاري المتعلق بتحديد التوجهات العامة لمشروع قانون المالية، وزمن الانتظارات الشعبية المرتبطة بكل دخول سياسي واقتصادي ومالي واجتماعي؛ مع العلم أن ثقل النجاح في ربط هذه الأزمنة تتحمله بالأساس المؤسسات المرتبطة بالتنفيذ، فهل تنجح هذه الأخيرة في رفع التحدي؟ هذا ما نتمناه.