تبنى المغرب خلال السنوات الأخيرة آليات تسوية تسمح للمغاربة الذين يملكون ممتلكات بالخارج ولم يصرحوا بها لمكتب الصرف بتسوية وضعيتهم المالية والقانونية. واستهدفت هذه المبادرة تشجيع هؤلاء المواطنين على الإفصاح عن ممتلكاتهم بشكلٍ قانوني وآمن، إضافة إلى المساهمة في تعزيز الاقتصاد الوطني، من خلال إعادة توجيه جزء من رؤوس الأموال نحو السوق الوطنية. إلا أنّ هذه التسوية واجهت العديد من العقبات العملية، ما حد بشكل نسبي من تفاعل الفئات المعنية معها، وأثر سلبا على الأهداف المتوخاة منها.
وحسب تصريحات سابقة لإدريس بن الشيخ، مدير مكتب الصرف خلال السنة الجارية، فإنّ عملية التسوية التلقائية لسنة 2024 تسير بوتيرة “مُطمئنة” وتعتبر “مشجعة”. غير أن هناك عدة تحديات تقف حائلا أمام تحقيق الأهداف، رغم الجهود المبذولة من قبل السلطات لإرساء بيئة محفزة. ويمكن تلخيص هذه التحديات في عدة جوانب، تشمل تعقيدات إدارية وشكوكا حول سرية البيانات وفعالية الحماية القانونية.
وتعتمد عملية التسوية على المادة 8 من قانون المالية رقم 55.23 لسنة 2024، التي تشكل الإطار القانوني لهذه العملية الثالثة من نوعها، بعد تسويات سنتي 2014 و2020. ويُتيح هذا الإطار القانوني للأشخاص الذاتيين والاعتباريين المقيمين بالمغرب، الذين يملكون ممتلكات بالخارج لم يصرح بها بشكل قانوني، تسوية وضعيتهم المالية. وتشمل الممتلكات المعنية العقارات والأصول المالية والقيم المنقولة، وأرصدة الحسابات البنكية المفتوحة في الخارج.
تحفيزات لتذليل العقبات
تتميز عملية التسوية التلقائية لممتلكات المغاربة بالخارج بتقديم عدة امتيازات للمصرحين، منها عدم التعرض لأي ملاحقات إدارية أو قضائية، مع إمكانية احتفاظهم بممتلكاتهم وحساباتهم بالعملات الأجنبية أو الدرهم القابل للتحويل؛ بالإضافة إلى ميزة مهمة تتمثل في تخصيص المساهمات المالية للصندوق الخاص لدعم الحماية الاجتماعية وتقليص الفوارق الاجتماعية، ما يمكن أن يشكل حافزا إضافيا للمشاركة في هذه العملية. لكن هذه الامتيازات، وفقا لمحسن زريف، خبير في القوانين الضريبية الدولية، تظل رغم أهميتها غير كافية لجذب جميع المستفيدين المحتملين، بسبب تعقيدات عملية تحد من جاذبية التسوية، مؤكدا أن “عدم وضوح بعض الإجراءات، وتردد الناس في الإفصاح عن معلومات حساسة رغم الضمانات القانونية، من بين العوامل التي تقلل من فعالية هذه العملية”.
وأضاف زريف، في تصريح لهسبريس، أن “أحد أهم أسباب ضعف الإقبال على عملية التسوية التلقائية، التي تشهد حركية خلال الفصل الرابع من السنة، أي الفترة الحالية، يهم صعوبة الحصول على الوثائق المطلوبة، إذ يطلب من المصرحين تقديم وثائق تثبت إقامتهم السابقة بالخارج وأصول ممتلكاتهم، وهي عملية مرهقة للبعض، لاسيما أولئك الذين لا يمتلكون دعما قانونيا أو محاسبيا مناسبا، بالإضافة إلى تكاليف الإجراءات، ذلك أنه رغم تقديم التسوية إعفاءات ضريبية إلا أن التحملات المرتبطة بإعداد الوثائق والاستعانة بمستشارين ضريبيين قد تكون مثبطة لبعض الأفراد”، مشيرا في السياق ذاته إلى أن العملية المذكورة تتطلب تخصيص وقت وجهد كبيرين، ما يصعب على المصرحين المحتملين، خاصة مع تزايد الطلبات على مكتب الصرف والبنوك كلما اقترب الموعد النهائي.
وأكد الخبير في القوانين الضريبية الدولية، في السياق ذاته، أنّ التأخيرات المشار إليها تهم في معظم الأحيان الشركات الصغيرة والمقاولات ذات الإمكانات المحدودة، “ما يزيد من شعور المعنيين بالإحباط ويدفعهم إلى التخلي عن فكرة التصريح”، منبها إلى أن مكتب الصرف مدد عدة مرات آجال التصريح لتشجيع التسوية التلقائية، وموضحا أن هذه المرونة تعد فرصة إضافية للمصرحين، علما أن تمديد الآجال قد يخلف في المقابل أثرا عكسيا لدى البعض، إذ يمكن أن تضعف هذه الخطوة الشعور بالإلحاح لدى بعض المصرحين، إذ تفسر أحيانا كعلامة على تعقيد الإجراءات، مشيرا إلى أن “هذه التمديدات المتكررة يمكن أن تزيد من التشكيك في استقرار وفعالية الإجراءات، ما يعزز حالة التردد لدى المعنيين بالعملية”.
مبادرات لكسب الثقة
رغم التأكيدات المتكررة من مكتب الصرف حول سرية المعلومات المصرح بها إلا أنّ الكثير من المصرحين المحتملين مازالوا يشككون في مستوى حماية بياناتهم، إذ يخشون من احتمال مشاركة معلوماتهم مع إدارات أخرى أو حتى جهات دولية. ويعود هذا التردد، كما يشير عبد اللطيف أومنصور، خبير مالي وبنكي، إلى مخاوف من التعرض لعواقب ضريبية أو قانونية إضافية، رغم أنّ قانون المالية لسنة 2024 يضمن سرية كاملة، مقترحا في المقابل تعزيز تقنيات عدم الكشف عن الهوية وزيادة الشفافية في سياسات الخصوصية لتشجيع المواطنين على التصريح بثقة أكبر.
وشدد أومنصور، في تصريح لهسبريس، على أهمية إحداث مكتب الصرف وحدة خاصة للتوجيه والتواصل، من أجل مواكبة المصرحين وتخفيف العبء عنهم، بالتنسيق مع البنوك؛ ومساعدة هذه المؤسسات في تقديم الإرشادات للمواطنين حول كيفية إتمام إجراءات التصريح، وتقليص العقبات الإدارية، موضحا في المقابل أنه “رغم أهمية هذه الجهود تظل غير كافية، لأنها لا تصل إلى جميع الشرائح المستهدفة، خاصة تلك الموجودة في المناطق النائية أو ذات التواصل المحدود مع البنوك، وبالتالي يستحسن مستقبلا تطوير الواجهات الإلكترونية وتبسيط الإجراءات أكثر لتعزيز الولوج إلى المواطنين وتشجيعهم على المشاركة في عملية التسوية التلقائية”.
وأضاف الخبير المالي والبنكي في سياق آخر أن “نجاح عملية التسوية التلقائية لممتلكات المغاربة بالخارج يمكن أن تكون له انعكاسات إيجابية على عدة مستويات؛ فالأموال التي سيتم تحصيلها من خلال هذه العملية تُخصص لدعم الصندوق الخاص للحماية الاجتماعية والحد من الفوارق الاجتماعية”، وزاد: “يشكل هذا البعد الاجتماعي عامل جذب إضافي للمصرحين، إذ يسمح لهم بالمساهمة في تحسين مستوى العيش في المملكة وتقليص التفاوتات”، موضحا أنه “من المفيد تحسين التواصل بشأن الاستفادة العملية من هذه الأموال، ليشعر المصرحون بتأثير ملموس ومباشر لمساهماتهم في التنمية الوطنية”.