بناية ضخمة رائعة بإبداع مهندسة معمارية عراقية مشهورة، مشهود لها بالعبقرية عالميا (رحمها الله). صرح كبير ذو جلال ورهبة يظهر من أي جهة دخل المواطن المغربي أو السائح إلى مدينة الرباط، المسرح الكبير الذي تمت به الأشغال منذ سنتين ولا يزال مقفلا إلى اليوم. فما الحكاية؟
كان مسرح محمد الخامس أحسن بناية ذات إشعاع ثقافي في المغرب، لا يمكن حصر العطاء الذي خرج من بين جدرانه وعماداته وخشبته التي تؤرخ للإبداع المغربي بجميع ألوانه. مسرح يترجم حاجة المغاربة الملحة للفرجة. فهل ضاق هذا المسرح ولم يعد قادرا على استيعاب الإنتاجات الفنية؟
الواقع يدحض هذا الكلام، لأن نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين جاءت “ببدعة” التلفزيون والحواسيب والهواتف الذكية، فأهمل المغاربة دُور السينما والمسرح حتى أقفل معظمها أبوابه، وتقلص دور مسرح محمد الخامس مقتصرا على الإبداعات المسرحية القليلة. وهذا يعني أنه كان كافيا لاحتضان الأنشطة القليلة التي ينتجها المغاربة.
يستحق المغرب ومدينة الأنوار هذه البناية الجميلة، وتستحق باقي المدن مثلها وأكثر، لكن أين مستهلك الفن والإبداع؟، أين العادات الجميلة في زيارة المسرح والسينما؟ كم من المغاربة سيحضرون إلى عرض مسرحي في المسرح الكبير وهو بهذه الضخامة ما شاء الله؟
أنا أتخيل المسرح الكبير مثل طريق سيار بين وجدة وبوعرفة، خال من العربات أو قليلِها إلى حدود العدم، رغم أننا لا نستكثر على أهالينا في الشرق مثل هذا المشروع الضخم. فكم ستكون المداخيل؟ ومن سيقوم بأشغال الصيانة؟ وفي الأخير يهمل الطريق وتعلوه الأتربة والرمال.
والمسرح الكبير نموذج للمشاريع التي نراعي فيها سمعة البلاد وعظمتها وإشعاعها دون أن نتحلى بالواقعية، وأنا أستحضر صديقا يشتغل في فرنسا في مجال المسرح، تمت استشارته قبل بناء المسرح الكبير في الدار البيضاء، فاقترح بناء مسرح متعدد الوظائف، فلا تكون صالة العرض ضخمة أكثر من الحاجة، وإنما يكون هناك مكان للتكوين وآخر للتدريب وآخر لفنون السرك وآخر للمكتبة الملحقة، إلى غير ذلك من المرافق الضرورية. ولا أدري ماذا فعل أصحاب المشروع بهذه المشورة لكن رأيه كان صائبا.
مثال المسرح الملكي في مراكش أيضا دال على هذا الميل إلى العظمة دون الحاجة، فقد اتضح أن به عيوبا معمارية أضرت بوظيفته ومنعته من أن التحول إلى معلمة فنية لافتة للانتباه في المدينة الحمراء.
نحن نريد لبلدنا أن يتمتع بأحسن المنجزات وأضخمها، وأن يتمتع المواطن بالراحة وسعة المكان في كل جزء من البلاد، لكن وفق الحاجة والضرورة والاستعمال الجيد. لا أحد يرفض السكة الحديدية بين مراكش وورززات أو بين الراشيدية وتارودانت، ولا الطريق السيار بين مراكش وتطوان ولا مطارات بمكناس وآسفي والقصر الكبير، لأن الحاجة ملحة والاستهلاك الكامل لهذه المشاريع مضمون ومنتج للثروة. أما أن نبني مسرحا أكبر من حاجتنا ثم نقعد على الأرض واضعين خدودنا بين أكفنا نتحسر عليه فذلك مخالف للمنطق السليم والله أعلم.