“?Who is the Adult in the room”
كنت قد كتبت في مقال سابق على نفس الجريدة (18 مارس 2024) تحت عنوان “عودة الأوكلوكراسيا” بأن احتمال إعادة انتخاب ترامب من شأنه أن يُحدث موجة ارتدادية عاتية، أن يُرسخ عودة الأوكلوكراسيا ويجعل من القرن 21 قرن الوطنية الشعبوية بامتياز. وكنت قد أضفت بأن هذه السنة ستشهد انتخابات في أكثر من سبعين دولة عبر العالم حيث سيلجأ حوالي 4 ملايير من المواطنين إلى اختيار أعلى مسؤوليهم، ويبدو أن الأمور تسير وِفق ما ترقبناه.
انتصار ترامب.. وقائع إعادة انتخاب مُعلن
ليس ثمة شك بأن ترامب لم يفز فقط بأصوات الناخبين الكبار بل بمصداقية أغلبية الناخبين الأمريكيين، اكتساح بهذا الحجم لم يكن متوقعا حتى من طرف الفائز نفسِه.
عوض أن نقوم بتحليل أسباب هذا الفوز الصارخ والمرتقب، سنحاول أن نُركز على مسببات الهزيمة المدوية للحزب الديمقراطي. الثاني يشرح الأول كما يقال.
من بين هذه الأسباب نذكر:
1- الأخطاء المتتالية للرئيس بايدن نتيجة مشاكله الصحية والعقلية، وآخرها قبل أيام قليلة من 6 نونبر، موعد إجراء الانتخابات.
2- الحيز الزمني الضيق الذي مُنح لكامالا هاريس للقيام بحملة انتخابية معقولة. محاولة تعويض النقص الزمني بالتهجم على شخص ترامب زاد من تكريس صورة الضحية التي سوقها هذا الأخير عن نفسه بدهاء كبير.
3- التركيز على الحق في الإجهاض وصَم الآذان عن الآهات الاجتماعية بفعل التضخم الكبير الذي فرض على الملايين من الأمريكيين البسطاء شغل ثلاث وظائف لاستكمال الشهر. نفس الأسباب تُحدِث نفس المشاكل كما يقال، أضف إليه أن الدعم الذي قدمه مشاهير السينما والغناء لكامالا هاريس زاد في ترسيخ تلك الصورة المُترفة عن الديمقراطيين وأنضج عناقيد الغضب.
4- عدم إعارة الانتباه لأهمية القيم الدينية والأسرية لدى الأقليات من أصول إفريقية، أمريكولاتينية، آسيوية وعربية. تداؤب السجلين الاقتصادي والأخلاقي يفسر الفشل الذريع لهاريس في أطالانطا، مسقط رأس مارتين لوثر كينغ والتي يقطنها حوالي50% من السود.
5- عدم الاهتمام بمشكلتي الهجرة والأمن في سياق موسوم بتآكل القدرة الشرائية والتحولات السريعة في مجال العمل علما بأن هاتين المشكلتين لوحدهما كانتا سبيين رئيسيين في انتصار اليمين المتطرف في عدد من البلدان الأوروبية.
6- الموقف المتساهل لحكومة بايدن-هاريس إزاء ناتنياهو الذي أدى إلى تمرد وانسحاب الشباب وكل أعضاء حركة “الووكيزم Wokisme” (النهضة) والناخبين العرب والمسلمين.
7- سحب الدعم للحزب الديمقراطي من لدن صحف كبرى مثل “واشنطون بوسط” و”نيويورك تايمز” في مقابل المشاركة المكثفة لمنصة “X” لإيلون ماسك في حملة ترامب.
لمن تُقرع هذه الأجراس؟
اليوم، ترامب رئيس مختلف عما كان عليه أثناء العهدة الأولى، تجربته أكبر ولديه هامش حرية أوسع يسمح له بفعل ما يشاء بفعل تحكمه في الحزب الجمهوري، في البرلمان بغرفتيه، في المحكمة الدستورية، وفي الدفاع والأمن نظرا للعلاقة التكنولوجية النفعية الكبيرة بين هاتين المؤسستين وإيلون ماسك. إننا إزاء شيء غير مسبوق في التاريخ السياسي للولايات المتحدة الأمريكية.
لقد تم منذ مدة اختيار حوالي أربعة آلاف شخص لا يُخفون طابعهم المحافظ لتقلد مناصب حساسة في الإدارة الجدية. القواسم المشتركة بين هؤلاء هي نظرتهم المؤامراتية للتاريخ، الحمائية الاقتصادية وفهم خاص ومنحرف للهوية الوطنية.
من بين الشخصيات العجيبة التي ستتقلد مناصب كبرى في هذا الحقبة “الزيلنسكية” الجديدة من السياسة الأمريكية هناك: ستيفن ويتكوف، المنعش العقاري كمبعوث خاص للشرق الأوسط، المحامي المناهض للقاح ف. كينيدي الذي سيتكلف غالبا بقطاع الصحة رغم عدم توفره على أي دبلوم في المجال الطبي أو الصحي بصفة عامة، وبيت هيغسيث، مقدم البرامج على قناة “فوكس” الذي سبق له أن شارك في حربي العراق وأفغانستان كمسؤول عن حقيبة الدفاع، وهو تعيين كان له وقع القنبلة داخل مكاتب البانتاغون.
أما عن تعيين طوم هومان للإشراف على عملية طرد المهاجرين غير الشرعيين وعودة راتكليف لإدارة المخابرات “CIA” فتبدو الأمور منطقية لأن الأول هو المُنظِّر الفعلي لمبدأ “تسامح 0” “Tolérance 0” ينما سبق للثاني أن تقلد نفس المنصب خلال الولاية الرئاسية السابق لترامب والرجلان يقتسمان الحنق نفسه على الصين.
بالنسبة لإيلون ماسك وفيفيك راماسواني، الأمر أعقد بكثير فالرجلان أنيطت بهما مهمة تقليص نفقات الدولة التي تنتهي نظريا يوم 4 يوليوز 2026. هذا هو الظاهر على الأقل، لكن المؤسسة التي سيشرفان عليها والتي تسمى “النجاعة الحكومية” لا تندرج ضمن هياكل الإدارة بل هي أقرب إلى مركز تفكير “think tank” لا تُعرف مصادر تمويله، والأرجح أنها اليد المُنفِّذة لرؤية التيار المحافظ الجديد (NRx) Néoréaction الذي يطلق عليه أيضا اسم “الأضواء الغامقة أو المظلمة” والذي ينتمي إليه جل مليارديرات السيليكون فالي “Silicon Valley”.
هذه الحركة التي تستمد أسسها المفاهيمية من الفكر الفلسفي-السياسي لجيمس بورنهام (1905-1987) مؤلِّف “الثورة الإدارية” “The managerial revolution” تَعتبر الديمقراطية الليبرالية سلاحا تستعمله النخب التقدمية لفرض ثقافة معولمة لا تنتج سوى النزاعات والفوضى لخدمة مصالحها.
لهذا، يدعو هذا التيار لعهد تقنوقراطي تحرُّري جديد لا مكان فيه للدولة الوطنية التي وجب حَلُّها بسبب العراقيل البيروقراطية التي تضعها في طريق الأشخاص الذاتيين والمعنويين وتعويضها بكيان فوق وطني، لا بالرأسمالي ولا بالاشتراكي، كيان عائم وشبه هلامي، تديره نخب جديدة: “Les managers”.
وبِتقلُّد د.ج. فانس -الذي يُعَد من أشرس المدافعين عن هذا التيار- منصب نائب الرئيس، وإمساك إيلون ماسك بمفاتيح الضيعة، ليس ثمة شك في أن “النجاعة الحكومية” تعني الشروع في هدم النظام الإداري-الإعلامي-الجامعي الحالي الذي يسمونه “الكاتدرائية” وتفكيك الدولة العميقة التي لا تسمح في نظرهم بأي تغيير.
كما يضيف أنصار هذه الحركة الجديدة بأنه إذا كانت مصلحة المُركَّب العسكري-الصناعي في زرع الفتن وخلق الحروب من أجل إنتاج الأسلحة وبيعها، فإن مصلحة “الكاتدرائية” تكمن في خلق المزيد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بهدف إنجاز أكبر عدد من التقارير والخبرات المؤدى عنها بسخاء، إغراق النقاش العام بمثل هذه المشاكل، عقد مؤتمرات دولية تلو الأخرى لمناقشتها والخروج بتوصيات حول أنجع الحلول لها، ثم الظفر لاحقا بقروض البحث العلمي المسخرة لذلك، ناهيك عن سَنِّ أكبر عدد من القوانين المنظمة لها التي لا تُفيد إلا واضِعيها.
إن هدفنا الأسمى، يكرر أنصار هذه الحركة، هو أن يتم التعامل مع المواطن كمستعمل”Utilitaire” له الحق في أن يستفيد أقصى استفادة من استثماراته.
مع مثل هذه الأفكار الجريئة في ظل إدارة بلا خبرة حيث الولاء للرئيس هو الشرط الأساس لاستلام المناصب، يبقى احتمال الخروج عن قوانين الديمقراطية الأمريكية واردا بقوة، وأن يقع الخلط بين البيروقراطية والمرفق العمومي، وربما هنا تكمن أول نقطة احتكاك بين ترامب وماسك (ومن معه)، أي إلى أي حد ستصطدم المصالح الاقتصادية والإيديولوجية للطرف الثاني مع المسؤوليات السياسية للرئيس؟
النموذج الاقتصادي لترامب:
بشكل مقتضب، يمكن القول إن هذا النموذج يستوي على وتدين: مزيد من الطاقة الأحفورية ومزيد من الرسوم الجمركية.
الأول، أو ما يسميه ترامب “احفر ياحبيبي احفر” “Drill baby drill” (بإيحاءاته الجنسية العزيزة عليه)، يعني المزيد من التنصل من كل محاولة للتقليص من تغير المناخ، أما الثاني فإعلان عن هجر وتطليق لمبادئ التجارة الحرة والتأسيس للحمائية الاقتصادية.
لهذا، من الراجح أنه سيتعامل مع الصين بتطبيق المزيد من المكوس الجمركية على وارداتها، بعقوبات اقتصادية وبمنع انتقال التكنولوجيا إليها. هنا تكمن نقطة احتكاك أخرى مع إيلون ماسك على اعتبار أن هذا الأخير يملك مصنعا ضخما “Gigafactory 3” مختص بإنتاج بطاريات إيونات الليتيوم والسيارات الكهربائية.
رهان ترامب على الكسر المائي لاستخراج النفط يعني التمسك بالمحركات الحرارية بينما شركة طيسلا تستثمر منذ سنوات طوال في السيارات الكهربائية.
كم سيدوم شهر العسل بينهما يا ترى؟
وماذا عن الجيوسياسة؟
ليس ثمة شك بأن المفهوم الأساسي الذي سيؤطر العلاقات الجيوسياسية للولايات المتحدة الأمريكية هو “أمريكا أولا” مما يعني إعادة سريعة لترتيب الأوراق على المستويات الدفاعية والأمنية والتكنولوجية والطاقية.
في ما يتعلق بتدخل الولايات المتحدة في النزاعات الخارجية، حتى لو أن ترامب وعد في حملته الانتخابية بأنه سيحد منه، فلعمري أنه سيستمر لا محالة في استعمال القوة الرادعة والعقوبات ضد دول مثل الصين وإيران لمنع استئساد الأولى على المستوى الاقتصادي، والثانية من استكمال مشروعها النووي وتقليص قدرتها الصاروخية فضلا عن ضرب أذرعها المسلحة في الشرق الأوسط وخليج عدن.
أما في ما يخص الحرب الروسية-الأوكرانية، فقد تكفل فانس بعرض برنامج رئيسه لحلِّها حيث يضم هذا البرنامج ثلاث مراحل: مرحلة أولى يتم فيها عقد اجتماع مع البلدين المتحاربين بمعية رؤساء بلدان الاتحاد الأوروبي من أجل الإقرار بضرورة وقف الحرب، مرحلة ثانية تعنى بالإبقاء على الأراضي التي احتلتها روسيا مع نزع السلاح من الحدود الجديدة، ومرحلة ثالثة تلتزم فيها أوكرانيا بعدم الانضمام إلى حلف الناتو مقابل ضمانات أمنية لمنع روسيا من إعادة اجتياح أوكرانيا.
مثل هذا السيناريو يبدو غير قابل للتحقيق نظرا للُّبس الذي يحوم حول الضمانات المذكورة وكيفية نزع السلاح وتأمين الحدود الجديدة. الضوء الأخضر الذي أعطاه بايدن لأوكرانيا في الأيام الأخيرة، بمباركة المؤسسة العسكرية، باستعمال صواريخ تصل إلى 300 كلم داخل الأراضي الروسية قد يكون مرحلة التصعيد التي تسعى فيها الأطراف المتحاربة إلى تحقيق أكبر مكاسب ميدانية وترجيح موازين القوى لصالحها قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات. سكوت ترامب عن هذا المعطى الجديد يزيد من صحة هذه الاحتمال.
إن نجاح ترامب المحتمل بشكل كبير في وقف هذه الحرب يتماشى مع مبدأ بنيامين كونسطان القائل بأن “الحرب والتجارة وسيلتان للوصول إلى نفس الهدف: تملُّك ما نريد”. بعد الاستثمار في الحرب (56,3 مليار دولار) حان الوقت للاستفادة من خيرات إيقافها عبر إعادة إعمار المدن والقرى، إعادة بناء البنيات التحتية وإعادة تجهيز الجيش الأوكراني، والتفرغ للمعضلة الصينية التي تقض مضاجع ترامب وتهدد هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية في ظل التغييرات الجيوسياسية الكبيرة التي يعرفها العالم.
بالنسبة للشرق الأوسط، يمكن اعتبار تعيين ماركو روبيو على رأس الخارجية، بيت هيغسيت في الدفاع، إليز سطيفانيك مندوبة في الأمم المتحدة، ستيف ويتكوف ممثلا خاصا للشرق الأوسط، ومايك هاكابي سفيرا في تل أبيب، بمثابة تقوية للجناح الصهيوني في الحكومة الجديدة المعروف بدعمه اللامشروط لسياسة اليمين المتطرف في إسرائيل. لهذا، من المنتظر أن تتم العودة إلى اتفاقيات أبراهام مع إدماج المملكة العربية السعودية كما كان مرتقبا. مع شبه الإجهاز الكامل على قدرات حماس وحزب الله في المنطقة تبدو الأمور أسهل نسبيا بالنسبة لترامب مع ما يعرفه هذا الملف من تعقيد شديد. تعيين مقاول في مجال البناء كمبعوث خاص للشرق الأوسط يحيلنا أيضا على الفوائد المرتقبة من إعادة الإعمار، وصدق من قال إن هناك دائما وقتا للفتق ووقتا للرتق.
أما في ما يهم الاتحاد الأوروبي، يمكن القول إن هذا الأخير يوجد اليوم في مرحلة وجودية مفصلية. ترامب لا يعدم حقا حين يستغرب متهكما كيف يطلب 500 مليون نسمة الحماية من دولة بـ 300 مليون نسمة، ويحثهم بصلافة منطقية على الاعتماد على أنفسهم لضمان أمنهم الخاص. يقول هذا وهو يعرف أنه بين الانقسامات القوية بين قُوَّتيه الأساسيتين، ألمانيا وفرنسا، والرهان الحازم والمؤسَّس لبولونيا على الحماية الأمريكية، والعروة الوثقى التي تجمع هنغاريا وسلوفاكيا بروسيا، سيكون من شبه المستحيل بالنسبة للاتحاد الأوروبي التوصل إلى اتفاق حول نموذج دفاعي موحَّد. لهذا، سيستمر في اللعب على هذه الخلافات وليس من المستغرب أن يتوصل إلى صفقة مع بوتين ويفرض على زيلينسكي القبول بتسويات مؤلمة ضدا على مصالح الكيان الأوروبي.
ربما آن الأوان بأن يستوعب هذه الأخير بأنه لا يمكن القفز على الجغرافيا عند اتخاذ القرارات السياسية وإنه كلما وسع المرء دائرة ذراعيه ضعفت قوة ضمته.