تخليد الشعب المغربي لذكرى استقلال المملكة المغربية الشريفة من الاستعمار الفرنسي والإسباني، مناسبة للتأمل في أبعاد الحدث/الذكرى من خلال مجموعة من الدلالات.
استوقفتني ثلاث منها، وهي: الجهاد الأصغر، الجهاد الأكبر، والاستقلال. وهي عبارات اختزل من خلالها المغفور له جلالة الملك محمد الخامس، طيب الله ثراه، رؤيته المتبصرة لما ينتظر البلاد والعباد من مجهودات جبارة لبناء المغرب المستقل.
فالجهاد الأصغر نضال عرش وشعب من أجل الحرية والكرامة، وفصول من مقاومة شرسة ضد المستعمر الذي نهب خيرات البلاد سرًا وجهرًا…
الجهاد الأصغر ثورة من أجل إرجاع العائلة الملكية إلى الوطن بعد نفي جائر إلى تلك الجزيرة التائهة وسط محيط منسي…
الجهاد الأصغر مسار تحدٍ لرحلة عذاب زمن الأوبئة والمجاعات والأمية والفقر…
الجهاد الأصغر ملحمة نضالية خاضتها قبائل الشاوية منذ أحداث الدار البيضاء عام 1908 (أولاد حدو، أولاد سعيد، أولاد حريز، المذاكرة، مزاب…)، صمود أمام جحيم الراجمات الفرنسية… أنوال، مشهد إذلال للجيش الإسباني أمام العالمين… معارك زيان، الوجه المنير من تاريخ المغرب المعاصر… الدار البيضاء، جمرة مشتعلة في يد الفرنسيين على الدوام… بنجرير، واد زم وجعيدان، دماء الشهداء تروي أرض العطش… قبائل آيت عطا… زغرودة بوكافر وصاغرو وما والاهما بقيادة عسو وباسلام…
الجهاد الأصغر زمن العطاء بسخاء… للأرواح والأموال في سبيل الحرية… سفر مفتوح لأحرار الوطن عبر السجون والمعتقلات: اغبيلة، العاذر، لعلو، عين قادوس، عين علي مومن… بل أصبح كل الوطن سجنًا مفتوحًا للمقاومين الشرفاء.
الجهاد الأصغر ودعنا فيه بالزغاريد ودموع الحسرة شهداء الوطن: موحا أو حمو الزياني، أحمد الحنصالي، علال بن عبد الله، محمد الزرقطوني، واللائحة أطول من المعلقات السبع…
وما عساه أن يكون الجهاد الأكبر؟
الجهاد الأكبر لن يكون إلا جهاد بناء الوطن… بناء المؤسسات… بناء الإنسان المغربي معرفيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا… بناء إنسان قادر على الإبداع والابتكار والخلق…
الجهاد الأكبر أن نستغل قيمنا المجتمعية وثوابتنا الجامعة من أجل تحصين خصوصيتنا المتميزة كأمة مغربية أصيلة، ممتدة في الماضي، ومترسخة في الحاضر، ومنفتحة على المستقبل…
الجهاد الأكبر لن يكون سوى جهادًا من أجل ضمان الكرامة لكل مواطن، وضمان إحساسه بعزة نفسه كمغربي ينتمي لهذا الوطن…
الجهاد الأكبر أن نوفر لكل طفل مقعدًا في المدرسة، ولكل عاطل عملًا يحفظ له كرامته، ولكل مريض فرصة للعلاج… أن نعبد السبل، ونفك عزلة القاصي والداني… أن نروي ظمأ كل عطشان عبر ربوع الوطن، وننير كل بيت فيك يا وطني…
الجهاد الأكبر أن نقيم العدل بالقسط ولا نخسر الميزان، أن نمسح دمعة اليتيم، ولا ننهر السائل في ردهات الإدارات، ونواسي جرحى النفوس…
الجهاد الأكبر أن نضع اليد في اليد من الشمال إلى الجنوب في تلاحم لبناء مغرب الغد… مغرب الكرامة والرفاه والرخاء…
الجهاد الأكبر ألا نبيع الوهم من أجل الحصول على أصوات المواطنين في كل استحقاق انتخابي… أن نستمع لكل الأصوات المخلصة لمقدسات الوطن باحترام وتقدير… أن نضع الرجل/المرأة المناسب(ة) في المكان المناسب…
الجهاد الأكبر أن نحمي المال العام كما نحمي أبناءنا من كل مكروه… أن نبعد المزايدات الفارغة عن قضايا الوطن… أن نفرض على العالم احترامنا كأمة استثنائية، أمة لها صوت مسموع في المحافل الدولية…
الجهاد الأكبر، كل هذا وذاك، بل أكثر من هذا وذاك… الجهاد الأكبر أن نخلص في حب الوطن… والتشبث بمقدساته وثوابته الجامعة.
أما الدلالة الثالثة فهي الاستقلال، يوم/عيد ليس للذكرى فقط، ولكن للعبرة… لا نريده أن يكون يومًا يسكن زاوية في يوميتنا المهجورة بمشاغل بحثنا عن قطعة خبز… نتذكره مرة في كل حول… بل نريده استقلالًا بصيغة الجمع…
احتفالية يومية بمناسبة الاستقلال من الأنانية التي تسكن النفوس، استقلال من اللامبالاة أثناء تحمل المسؤولية، استقلال من الغش في المعاملات، استقلال من الكسل في رعاية شؤون الناس، استقلال من النفاق الاجتماعي والسياسي، استقلال من التهاون في تدبير الشأن العام.
استقلال من خيانة الأمانة، استقلال من التهرب من تحمل المسؤولية، استقلال من الاستعلاء على ضعفاء الأمة، استقلال من الاحتكار بكل أصنافه، استقلال من اللهث وراء الكراسي والمناصب لتحقيق المآرب الذاتية…
فالاستقلال بصيغة الجمع أن نشعر في كل لحظة أننا في الجهاد الأكبر.