1
لم أكن يومًا من أولئك الذين تستهويهم صيحات الموضة أو تستوقفهم إعلانات الألبسة والعطور اللامعة؛ وحينما أواجه مجلات الموضة في رفوف المكتبات أو بين يدي المسافرين، أكتفي بابتسامة خجولة وأمضي إلى حال سبيلي. غير أن رحلة سفر طويلة، أثقلها بطء الوقت ورتابته، دفعتني إلى تصفح إحدى تلك المجلات التي طالما تجنّبْتها. لم يكن ذلك سوى محاولة عابرة لتزجية الوقت، دون أن أتوقع الوقوع على مقالة قد تستحق القراءة وسط إعلانات الموضة المختلفة بألوانها البرّاقة.
وأنا أتصفح المجلة لفت انتباهي مقال قصير اهتمّ بتحليل سؤال فلسفي عميق مفاده: هل يمكن للْجَمَال أن يُنقذ العالم؟ انساب النص أمامي مثل عطر خفي، لا من تلك الزجاجات الفاخرة التي طالما صرفتُ نظري عنها، بل تأمّلا بَدا معه الجمال أكثر من مجرد لون أو تصميم، ليغدوَ فكرة تحمل في جوهرها قدرة على الإلهام وتحفيز الإبداع. شعرت أنني أمام سؤال يتجاوز حدود الموضة ليقتحم أفق الفلسفة؛ سؤال شغل أذهان المفكرين عبر العصور. في تلك اللحظة أدركت أنني وجدت في مجلة موضة ما يستحق القراءة، واكتشفت منحى تأمليا جديدا لسؤال طالما قيل إنه سرٌّ من أسرار الوجود. كان الجمال محورًا أساسيًا في تساؤلات الفلاسفة حول معناه وتأثيره.
2
اعتبر أفلاطون الجمال انعكاسًا للمُثُل العليا، وفكرة سامية تتجاوز حُدود المحسوس، لترتقي بالروح نحو الكمال. من هذا المنطلق، لم يكن الجمال يُدرك إلا في علاقته الوثيقة بالحقيقة والخير، إذ يعد عنصرًا جوهريًا من عناصر الارتقاء الأخلاقي. بذلك، لا يُختزل الجمال في كونه ترفًا بصريًا أو إحساسًا عابرًا، بل يتجلى كقوة فاعلة توجه الإنسان نحو حياة فاضلة، وتسهم في تغيير العالم عبر ترسيخ قيم الحق والعدالة.
يعتقد كانط أن الجمال لا يرتبط بالمنفعة العملية أو الرغبات الشخصية، بل ينبع من الشعور بالتأمل الحر الذي يثيره موضوع ما في النفس البشرية. في كتابه “نقد ملكة الحكم” يصف كانط الجمال بأنه تجربة ذاتية، حيث يحكم الإنسان على الشيء بأنه جميل عندما يولّد انسجامًا بين ملكة الفهم وملكة الخيال دون ارتباطه بمفهوم محدد. الجمال، في تصوره، ليس خاصية في الأشياء ذاتها، بل هو نتيجة لتفاعل العقل مع الموضوع بطريقة تثير في النفس شعورًا بالرضا المتحرر من كل غاية عملية. هكذا يصبح الجمال لدى كانط وسيطًا بين الحسي والعقلي، وجسرًا يربط الإنسان بعالم القيم الكونية.
في مقابل ذلك، يضع هيغل الجمال في قلب العملية التاريخية حين يعتبره تجسيدا للروح المطلقة في أشكال محسوسة، وأنّ الفن هو الوسيلة الأسمى لبلوغ هذا الجمال. من هذا المنظور، يعتقد هيغل أن الأعمال الفنية الكبرى ليست مجرد إبداعات جمالية، بل هي أدوات وعي تاريخي تعكس صراعات عصرها وتُعيد تشكيل فهم الإنسان للعالم. بهذا المعنى، يصبح الجمال قوة محركة في التاريخ، تُعيد صياغة القيم والأفكار عند تشكلها عبر مختلف الأزمنة.
يتجاوز نيتشه كل التصورات المثالية للجمال، لاعتقاده أنه ينبع من مواجهة المأساة والتغلب على الألم، وهو بذلك تعبير عن قوة الحياة وإرادة الإنسان في مواجهة العدمية. الجمال عنده احتفاءٌ بالمأساوي وقدرة الإنسان على تحويل المعاناة إلى إبداع. لذلك لا يغير الجمال مجرى التاريخ من خلال الكمال أو الانسجام، بل من خلال إثارة الفوضى الخلاقة التي تدفع الإنسان لتجاوز ذاته وإعادة صياغة قيمه بجرأة وابتكار. ليس الجمال عند نيتشه هروبًا من الألم، بل احتفالًا بالمأساة باعتبارها المحرك الأساسي للإبداع والتجديد.
يمكن القول إجمالا إن فلاسفة الجمال سعَوا، عبر مقارباتهم المختلفة، إلى فهم تأثير الجميل على الإنسان، ليس فقط باعتباره مجالا حسّيا، بل قوة تغيير تسمح له بإعادة تشكيل علاقته بذاته وبالعالم.
3
بهذا المعنى، لا يتعلق الجمال بمظاهر الحس والذوق، بل يمتد ليشمل الجميل بوصفه فعلا وجوديا، يسمو بالنفس البشرية من عالم المحسوسات إلى عالم التجريد. من هذا المنطلق، يكتسب الجمال طابعًا أخلاقيًا، وسبيلا للتحرر من قيد الأهواء والارتقاء إلى حالة من الصفاء الروحي.
لكن، هل تكفي هذه النزعة المثالية لإنقاذ العالم؟ وهل يمكن للاطمئنان النفسي الناتج عن الجمال أن يتحول إلى سلام عالمي؟
في ظل ما يشهده العالم اليوم من أزمات متواصلة، تتراوح بين الحروب المدمرة والتغيرات المناخية القاسية، يطرح السؤال عن دور الجمال في إنقاذ الإنسانية. يرى البعض أن الجمال، سواء في الفن أو في الطبيعة، يمثل ملاذًا من التوحش البشري، لأنه يبعث في الإنسان شعورًا بإنسانيته وسط هذا الطوفان من العنف والخراب؛ إلا أن ثمة من يطرح تساؤلًا آخر:
هل يُعقل أن يظل التركيز على الجمال ذا معنى في عالم يغرق في المظالم والآلام؟ هل يصبح التفكر في الجمال رفاهية تتعارض مع الواقع المأساوي الذي نعيشه، أم أنه ضرورة لإعادة التوازن للروح البشرية في زمن يفتقر إلى معنى الحياة؟
تُبرز هذه الأسئلة دور الجمال باعتباره أداة للتأمل ووسيلة للتغيير، فضلاً عن كونه مجالًا للتفاعل الحيوي بين الإنسان ووجوده. ورغم أن الجمال قد لا يملك القدرة على تغيير العالم بمفرده، فإنه يفتح أفقًا لعوالم أكثر إنسانية، حيث يتحول السعي نحو الجمال إلى مسعى نحو خلق عالم أكثر عدلاً وتوازنًا.
4
إن فكرة إنقاذ العالم من خلال الجمال ليست مجرد شعار مثالي، بل هي تساؤل فلسفي يعكس دور الجمال في إثراء التجربة الإنسانية، سواء في الفن أو الطبيعة أو القيم الأخلاقية. فالجمال يمتلك القدرة على تجاوز الاختلافات الثقافية واللغوية، موحدا القلوب والعقول حول قيم مشتركة تسهم في تعزيز التفاهم وقبول الآخر. يتجسد هذا بوضوح في الأعمال الفنية التي تتجاوز الحدود الجغرافية واللغوية حاملة رسائل كونية عن الحب، والحزن، والأمل… وهكذا، يتجاوز الجمال كونه مجرد تجربة حسية، ليصبح دعوة للتأمل في القيم التي تقوم عليها الفضيلة وتسهم في تهذيب النفوس.
الجمال والجميل مفهومان يتشاركان الجذر اللغوي والمعنوي، ولكنهما يختلفان في الاستخدام والسياق والدلالة. يشير الجمال إلى الحالة أو الصفة العامة التي تمثل الكمال والانسجام، سواء تجلت في الطبيعة، أو الفنون، أو الأخلاق. فهو مفهوم مجرد يرتبط بالإحساس والإدراك، ويتذوقه الإنسان بفطرته أو من خلال مكتسباته الثقافية. أما الجميل فيعبر عن كيان محدد يتجلى فيه الجمال، ليصبح موضوعًا لإعجاب الناظر أو تأمل المتأمل.
الجميل أحد مظاهر الجمال.
غير أن الجميل لا يمكن اختزاله في الجمال، إذ قد يتجلى الجمال في أمور غير محسوسة أو مرئية، مثل جمال التضحية أو النبل. من هنا تنبع أهمية فهم الطبيعة المركبة للجمال، بوصفه فكرة مجردة ومطلقة تتأثر بتحولات ثقافية واجتماعية عبر الزمن، في حين يظل الجميل مقيدًا بسياقه ولحظته. فلوحة جميلة أبهرت أجيالًا قد تفقد قيمتها الجمالية في أعين جيل آخر، بينما يبقى الجمال نفسه معيارًا نسبيًا ومفتوحًا على تبدّلات الزمن. يتجلى من هذا التمييز أن الجمال هو المفهوم الأشمل والأكثر تجريدًا، بينما يشكل الجميل تعبيره الحسي والملموس.
الجمال يُلهم، أما الجميل فيُدهش.
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.