اشتهرت مقولة «من علمني حرفًا صرت له عبدًا» في عالمنا العربي وأصبحت مُتواتره منذ مئات السنين، وهي تقال غالباً لطلبة العلم والتلاميذ لحثهم على إحترام وتوقير المعلم حتى أن البعض أصبح يحسبها لأول وهلة حديثًا شريفًا؛ والمسلم لا يرضى أن يكون عبدًا بمعنى العبودية لغير الله، حتى لو كان هذا المخلوق نبيًا أو رسولًا، لكن هذا لا يُقلل من أهمية المعلم من الناحية الدينية والإجتماعية، وتواتر المقولة أعلاه بيننا إلى اليوم خير دليل على ذلك.
المقصود بالعبودية هنا الطاعة، فما من هدية يمنحها لك إنِّسان في الدنيا وتصبح لصيقة بشخصك وحياتك طوال العمر أعظم من العلم، وبالتالي وجب عليك تقديم الطاعة والإحترام والتبجيل للمعلم الذي أهداك علمه، فالعلم ميراث الأنبياء والعلماء ورثته، والمعلمون هم أرفع الناس منزلة في الدنيا قبل الآخرة، وقد استعاذ الرسول صل الله عليه وسلم من زمن لا يُحترم فيه المُعلم، ودعا الله أن لا يدركه مثل هذا الزمان.
أمير الشعراء أحمد شوقي كتب قصيدة عن المعلم يوضح من خلالها مدى أهمية إحترام المعلم، والتأكيد على دوره الهام في المجتمع، حيث قال: «قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا»، وهي من أهم قصائد الشعر التي تناولت الحديث عن المعلم لتوضيح مدى أهمية دوره في المجتمع؛ فمهنة المعلم من المهن السامية التي تعد من أهم المهن التي تحتاج إليها كافة المجتمعات، وعلى الجميع أن يدرك مدى أهمية دوره، والتعامل معه بأقصى قدر من الإحترام.
الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول في قصيدة يمتدح فيها المعلم: «ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء.. وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء.. ففز بعلم تعش حيـًّا به أبدا الناس موتى وأهل العلم أحياء».
ميز الله المعلم عن غيره بمنحه الرفعة والمنزلة العظيمة، فالمعلم مختلف عن غيره من الجهلاء المحيطين به، ويتميز بعدد كبير من المهارات، والإمكانيات الكبيرة، وذلك بالإضافة إلى قدراته العالية التي يعتمد عليها في تأسيس التلاميذ الصغار، وأيضًا في بناء عقول الطلاب الكبار.
المعلم هو المسؤول عن صناعة الرؤساء، والقادة، والأشخاص المنتجين، وغيرهم الكثير من الوظائف الهامة، ويعد بمثابة حجر الأساس في بناء الأمم والشعوب، فلا تستطيع الأمم أن تتقدم أو تزدهر دون وجود معلم يأخذ بيد أبنائها، كما يتصف المعلم بالاطلاع الدائم، والثقافة والمعرفة.
وبعد هذا التميز من الله عز وجل، وبعد كل هذا التقدير الذي منحه إياه الرسول صل الله عليه وسلم، وبعد هذا المدح العظيم لدور المعلم من إمام الحياء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وبعد هذ الإحترام القدير الذي وضحه أمير الشعراء أحمد شوقي لدور المعلم الهام في المجتمع في أشهر قصيدة توضح أهمية المعلم في بناء الأمم وقدره وإحترامه، دائمًا ما نجد من يهينون السادة المعلمين ويقللون من مجهوداتهم، وينكرون دورهم في التربية والتعليم، خصوصًا من السادة أولياء الأمور، والمؤسف ومن الطلاب أيضًا! والسؤال: الغلط فين؟.
الغلط فين؟ سؤال تربينا وكبرنا وقد اعتادت عليه آذاننا وتربت عليه عقولنا من خلال البرنامج الإذاعي الشهير «الغلط فين؟» الذي عهدناه يتنقل في كل مكان يكتشف المواهب ويختبر المعلومات على يد الرائع القدير الراحل الأستاذ علي فايق زغلول، الذي تعلمنا أنه لابد ونحن نتذكره هو وأمثاله أن يسبق اسمه لقب «الأستاذ».. هكذا تعلمنا.
لم نعد نتابع البرنامج ولا نعلم إن كان لا يزال مستمرًا أم لا، لكنه حفر في العقول والقلوب سؤالًا مشروعًا «الغلط فين؟» فبقي ملازمًا لأجيال كثيرة، يطفو على سطح الذاكرة كلما رأوا أشياء لا تتفق مع العقل ولا القلب ولا العرف ولا الدين ولا أي شيء!
لابد وأن نقر ونعترف ولا نجادل في وجود أصول لا يمكن أن تتغير، فإحترام الصغير للكبير مثلًا، هل يمكن أن يأتي يوم ونقول إنه أصبح موضة قديمة؟ هل يجوز في أي زمان أو مكان أن يصبح عقوق الأبناء للآباء من علامات التقدم والتحضر؟ هل يمكن أن تصبح الصلاة والعبادة تخلفًا ورجعية؟ هل يمكن أن يصبح الشذوذ الجنسي هو القاعدة المستقرة بين أفراد المجتمع؟ هل يمكن أن تصبح التربية الحسنة عارًا أو ضعفًا؟.
ولأنني ممن تربوا على مشروعية سؤال «الغلط فين؟»، أجد نفسي غصبًا عني أنتبه إلى تصرفات تربينا على أنها «غلط» و«عيب» و«ما يصحش»؛ رغم ذلك ولأنني على يقين بضرورة الاختلاف بين الأجيال، ولأنني أب سوف يواجه ذلك مع أبنائه، فقد اعتدت مراعاة ذلك الفارق الزمني قبل الحكم على أي تصرف مستحدث.
لكن من الأشياء التي لاحظتها ولم أستطع أن تمر أمامي مرور الكرام أسلوب التعامل مع المعلمين حاليًا، وخصوصًا من أولياء الأمور، طبعًا لا يوجد حضور بالمدارس في ظل انشغال الأبناء طيلة اليوم في الدروس الخصوصية للحصول على أعلى الدرجات، وأدى ذلك إلى فقدان الرابط اليومي التربوي الذي تربينا عليه بين المعلم وتلاميذه، انتهى زمن الأستاذ الذي كان يربي قبل أن يُعلم.
وجاء زمن المدرس الخصوصي الذي لا تهمه التربية ولا يشغله سوى تحقيق أماني الأهالي بحصول الأبناء على أعلى الدرجات، وعلى فكرة هو يفعل ما يريدونه تمامًا وبمنتهى الإتقان، وهم يطلبون ما فرضه عليهم مكتب التنسيق وسوق العمل ومتغيراته، لكن للأمانة وزير التربية والتعليم الحالي الدكتور محمد عبداللطيف، منذ توليه المسؤولية شدد على عودة الطلاب إلى المدارس ونجح في ذلك إلى حد كبير بتفعيل الغياب والعقاب عليه بالحرمان من دخول الطالب المنقطع عن الدراسة من أداء امتحانات نهاية العام، وتفعيل التقييمات الأسبوعية وأعمال السنة.
تعبير الطلاب عما يجول بخاطرهم وما يضايقهم يعتبر ظاهرة صحية، لكن أن يتحدث الطالب مع أستاذه بأسلوب «جرى إيه يا مستر، إنت بتكلمني كده ليه؟ أنا ما مفيش حد يكلمني كده»، أو «أنا بادفع فلوس وعايز حقي»، والأهم «مش من حقك تمد يدك علينا، والضرب ممنوع في المدارس».. وغيرها من الأقوال لا يمكن ذكرها لبذاءتها الشديدة.. أو هكذا يراها أبناء جيلي.
الأخطر هو تصرف أولياء الأمور مع السادة المعلمين عندما يشتكي لهم أبنائهم، فمنهم من يتطاول عليهم بالسباب والألفاظ البذيئة، والكثير منهم من يتشاجر معهم بالأسلحة البيضاء وغيرها، وأصبح التقليل من شأن المعلم وإهانته وترهيبه هو الأمر الطبيعي والمعتاد، حتى وصل الأمر إلى ذبح معلم على يد طالب داخل فناء المدرسة، فهل هذه الأمور الغريبة علينا من سوء الأخلاق ستنتج لنا أجيالًا سوية قادرة على بناء الأمم؟!!.
الأسبوع الماضي قام والي أمر طالبة بالصف الثالث الإبتدائي بالتعدي على مدرسة بالسب والقذف والتطاول باليدين أمام طالبات المدرسة بطابور الصباح!! والمعلمة تبلغ من العمر خمسة وخمسين عامًا، فما كان من مدير المدرسة إلا أنه تصدى له على الفور وهرول لإنقاذها منه، فقام بالتعدي على المدير بالضرب والسب والقذف بألفاظ مسيئة ومشينة، ومن سوء حظه كان ذلك كله مصورًا بكاميرات المراقبة الخاصة بالمدرسة، وحاول السادة المعلمين السيطرة على والي الأمر لكنه طاح في الجميع، فقام السيد مدير المدرسة بالإتصال بالشرطة.
والي أمر الطالبة كان بصحبته زوجته ونجلته، وكان متفق مع زوجته بأن تقوم بدور أخر أكثر بشاعة من دوره المشين، وهو إذا حاول مدير المدرسة أو أحد المدرسين التدخل تقوم هي مسرعة بالتوجه إلى قسم الشرطة مدعيه تطاوله عليها، وظهر هذا الدور المتدني عندما حاول المدير غلق باب المدرسة بعد إستدعائه لشرطة النجدة، فقام بالتعدي على المدير محاولًا فتح الباب صارخًا في وجه زوجته: «قولتلك روحي بسرعة على القسم وقولي المدير تطاول عليا».
حضرت الشرطة إلى فناء المدرسة، حاولوا إحتواء الموقف والتهدئة بين الطرفين، لكن مدير المدرسة أصر على تطبيق القانون واصطحاب والي الأمر إلى قسم الشرطة وإتخاذ ما يلزم، لكن المؤسف أن قائد الكول الأمني أكد لمدير المدرسة أنه في هذه الحالة سيصطحب المدير ووالي الأمر مكبلين إلى القسم، وضغطوا عليه بالتنازل وحل الموضوع بشكل ودي دون اللجوء للشرطة.
من علمني حرفًا صرت له عبدًا، هل باتت موضة قديمة؟ وهل ذلك يقودنا للأمام أم يرجع بنا آلاف الأميال إلى الوراء؟ الجيل الجديد يقول: لماذا أصبح له عبدًا؟ هو يتقاضى المال نظير تعليمي! أنا أتعلم بفلوسي وبموجب الدستور، وجيلنا يقول: هو علمني حرفًا وحرفًا فصارت كلمات وعبارات ثم معرفة بكل شيء من حولي، علمني التجارة والقانون والطب والهندسة والآداب.. إلخ، فأصبحت مصدر رزقي، وسبب تميزي، وقبل ذلك علمني آداب الحياة.
أبناء جيلنا والأجيال السابقة دائمًا ما يرددون: كان مربيًا قبل أن يكون معلمًا، كان يعلم ذلك ويؤديه بحب، كان يدرك دوره ومشاركته للأسرة في التربية؛ لذلك أقف له إجلالًا واحترامًا إذا رأيته، ولا أتردد لحظة واحدة في أن أقر وأعترف أنه في وقت ما قد علمني حرفًا فصرت له عبدًا حبًا وتقديرًا واعترافًا بفضله.
أين نحن الآن يا سادة؟! وإلى أين المصير؟! علينا جميعاً اليوم أن نعمل على تغيير هذا المسار قبل أن يستفحل، بدءًا من وزارة التربية والتعليم مرورًا بالمعلمين أنفسهم، وصولًا لمجتمعنا بأكمله؛ لنُعيد مسار عملية التعليم إلى مسارها الصحيح.
الوزارة عليها ألا تهضم المعلم حقه؛ بل تكرمه ليتفرغ لرسالته، والمعلم عليه أن يعي دوره في المجتمع، ليكون مُعلمًا يقرأ ويثقّف ويطوّر من نفسه، ومن تحصيله العلمي باستمرار؛ لينقله إلى تلاميذه، فكيف يقنع معلم تلميذه بالقراءة وحبها وهو لا يقرأ؟! كما إن المجتمع عليه أن يعطي المعلم حقه وقدره من الاحترام والتبجيل ليزيد عطاءه ويتواصل.
وأخيرًا: قم للمعلم وفه التَبجيلا كاد المعلم أن يكون رَسولا، لأن التعليم أساس حياتنا المعاشية وكل مستقبلنا القادم، وإذا أُريد إصلاح ناجع لأي بناءٍ لابُد من إصلاح وتمتين الأساس قبل أي شيء آخر، ولا أساس لمجتمع دون عِلمٍ.