نقاشٌ مغربيٌّ بالإمارات تجاذبت أطرافه أسماء ثقافية مغربية بارزة، بالمعرض الدولي للكتاب بالشارقة في دورته 43، التي تستضيف المملكة ضيف شرف.
الندوة المنظمة في إطار فعاليات “مغرب الثقافات في شارقة الكتاب” استضافت ثلاثة متدخلين للحديث في موضوع “الهوية المغربية”، هم الأكاديمية رحمة بورقية، والمؤرخ جامع بيضا، والأديب عبد الإله بنعرفة، بتسيير الأكاديمي عمر حلي؛ لكن مداخلاتها لم تقتصر على الأسماء المبرمجة، بل امتدت إلى أسماء مغربية فكرية ومسؤولة أخرى.
شخصية متعدّدة
استحضرت الأكاديمية رحمة بورقية تعريف دستور 2011 المملكة المغربية بكونها “دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية.”
وأضافت بورقية أن التاريخ والأركيولوجيا يقدمان فرصة للنقاش حول أثر كل الروافد المتعددة في الهوية، مردفة: “هناك أشياء تنساها هويتنا، وكل ما نحتفظ به ويكوننا هو المهم؛ لأنه توجد أشياء في التاريخ يجب أن ننساها، لكن يجب أن نحتفظ بالديمومة، ففكرة الدولة مثلا، ولا أقصد فقط أسماء الدول المتعاقبة، كانت عبر التاريخ موحدة لنا؛ لذا نبحث عنها في ذواتنا، والهوية المغربية، كمكون أساسي”.
ومن بين ما تطرّقت إليه الأكاديمية ذاتها فترة الاحتلال الأجنبي أو “الحماية” في القرن العشرين؛ قائلة: “لا أقبل كل شيء من الاستعمار، لكنه ترك شيئا وأصبح في هويتي”.
بالتالي، نبهت المتحدثة إلى أن “هوية المغاربة متعددة الأبعاد؛ لأننا احتفظنا بالأبعاد التي تشكلنا اليوم كشخصية، وهذا ما يعطينا القدرة على التأقلم والتفاعل، بفعل ما أُعطيناهُ من مفاتيح احترام الحضارات والآخر، واحترام ثقافة الآخر”.
“شكونْ حنا؟”
جوابا عن سؤال “شكون نتا؟” أو “من أنت”، الذي قد يطرح على الفرد، استحضر المؤرخ المغربي جامع بيضا “الهوية الجماعية التي تصنع الشخص؛ عبر ترسبات في الزمن تكوِّنُ شخصية المغرب اليوم”، مردفا: “كان المغرب وثنيا وأصبح مسلما، وكان يهوديا وعبريا أيضا… وكل هذا يتملكه المغربي، والآثار الفينقية تعود بنا إلى 12 قرنا قبل الميلاد في ليكسوس وشالا، وكذلك الآثار الرومانية في وليلي وبناصا، والنقوش الصخرية التي حفظت لنا حروف تيفيناغ التاريخية المعمّرة بين 2500 و3000 عام وأحييت الآن بفضل عمل مشكور للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، اهتم بلغة همشت أحيانا ووظفت إيديولجيا أحيانا أخرى، وبالتالي أُحْيِيَت في تكوين شخصيتنا. أما التراث الإسلامي فيعجّ به كل زقاق ومدينة بالمغرب، وهو مستمر في المملكة عبر الزمن منذ 14 قرنا”.
“إذن كل هذه العناصر التي تفاعلت في رقعة جغرافية معينة، على مدى قرون عديدة، خلفت روحا وطنية للتعايش بين العناصر الداخلية والخارجية المحيطة. وحتى مرحلة الاستعمار ينبغي تملكها في الشخصية المغربية بسلبياتها وإيجابياتها، فعدم الانتباه إليها أو وضعها بين قوسين يخلّ بفهم اليوم. وفي مرحلة ما بعد الاستقلال الإسطوغرافيا المغربية كانت ردودا ضد الاستعمار وتصفية حسابات معه، وبعد هذه المرحلة جاءت الأمور المدققة؛ علما أننا اليوم في حاجة إلى الحداثة الذهنية لا إلى التحديث المادي”، يورد المؤرخ ذاته.
وحول عرض نسخة من جمجمة أقدم إنسان عاقل اكتشف بمنطقة اليوسفية بجبل إيغود، تعود على الأقل إلى 300 ألف سنة، في 2024 برواق المغربِ، ضيف شرفِ معرضِ الكتاب بالشارقة، قال بيضا: “هذا العرض لا لقول إننا وجدنا جمجمة فقط؛ بل لقول إننا نتملك كمغاربة هذا الماضي العريق السحيق، سواء كان ماضيا إسلاميا أو ما قبل إسلامي؛ فنحن لسنا داخلين في الجاهلية وما بعدها، بل في تملك شيء يدخل في الشخصية الوطنية، ودون تملكه سيكونُ غيرَ صانع لهويتنا؛ فجذور الهوية، كما يقول البعض، توجد في بطن التاريخ، ويجب أن نبحث عنها (…) والمغرب في أقصى الغرب الإسلامي، مطل على بحر الظلمات الذي صار يسمى (الأطلنتي)، ومطل جغرافيا على المجال الصحراوي الذي كان امتدادا وعمقا إفريقيا، ما يجعل تفاعل الجغرافيا مع الزمن فاعلا مكونا لشخصيتنا، ونعرف السياسة المغربية الرسمية اليوم التي تجعل في الصدارة السياسة الإفريقية”.
كما دافع جامع بيضا عن أن الهوية “تتحدد في اللقاء مع الآخر”؛ فـ”السوسي ليس سوسيا إلا إذا غادر سوس، وكذلك الفاسي، والمغربي إذا غادر المغرب… فهويتنا لوحة فسيفساء جميلة، وزليجٌ جماليته في اختلاف جزيئاته وتكاملها”، وفق تعبيره.
انبساطٌ لا انطواءٌ
تساءل الروائي عبد الإله بنعرفة في مداخلته: “هل توجد حقيقة شخصية مغربية؟”، مردفا: “إذا كانت موجودة ينبغي أن نتلمسها في التاريخ والحضارة واللباس”، ثم استشهد بـ”رسالة الانتصار لأهل المغرب” التي كتبها محي الدين ابن العربي، بعدما سأله أحد أصدقائه من أهل بغداد عن رجل من أهل فاس عرف بالعلم والصلاح لم يستطع الإجابة عن أسئلة؛ فكان مما قاله إن المشرق أهل أنوار، والمغرب أهل أسرار وكتم، واعتبر ذلك جزءا من الشخصية المغربية.
وحول الاعتراف بروافد متعددة للشخصية المغربية من بينها الرافد الأندلسي فإنه يفهم بالنسبة للمتدخل في إطار “إمارة المؤمنين” التي لا تعني فقط “الولاية الوطنية”، بل “الولاية الكونية” أيضا؛ “فالانتماءات الضيقة لا تحصر المواطنين في الولاء للدولة المستمرة فقط، بل الحرص على المشترك الذي هو أعز ما يطلب”.
ودافع بنعرفة عن أن “المغربي ليس شخصية انطوائية بل منبسطة”، دون أن ينفي ذلك “وجود لحظات تاريخية عرفت انكفاء، وحفرا في الجذور بشكل مرضي وسواسي”، إلا أن “المنطق الإمبراطوري” هو الذي “صنع الحضارة”، وبالتالي فإن فصلَ تعريف هويات وروافد المملكة في الدستور “أفقٌ للمغاربة، لا انكفاءٌ على الذات”.
آراءُ في الهويات والانتماء
قال الناشط الحقوقي البارز مصطفى المانوزي، في تدخّل بالندوة، إن “المسألة الجيولوجية مهمة في الشخصية المغربية”، أي ما تغذّيه الاكتشافات الأثرية المستمرة، كما أن “المقاومة الوطنية للاستعمار جانب مهم من الشخصية؛ مع العلم أن هذا لا ينفي ثمرة لفترة الاصطدام بالآخر الأوروبي في بداية القرن العشرين: مطلب التحديث المستمر، المرتبط بالديمقراطية”.
الروائي ووزير الثقافة سابقا محمد الأشعري ذكر من جهته أن المتدخلين قدّموا صورة عن المغرب غير معروفة على نطاق واسع خاصة في المشرق، وتابع: “ينبغي أن يبقى الحفر في المكونات المتحركة، لأنه لسنوات بسبب الحركات الوطنية ومقاومة الاستعمار أنتجنا خطابا للوحدة التي تطمس الجزئيات المكونة لها، وكانت في هذا خسارة كبيرة، ففي وقت نظن أننا في الغرب والمشرق قريبون كثيرا من بعضنا إلا أننا نعيش انفصامات خطيرة لأننا لا نعرف بعضنا البعض فعلا؛ والعالم الذي سميناه تجريديا العالم العربي هو عوالم ليست عربية فقط”.
أحمد بوكوس، عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، تطرق إلى مستويين مختلفين في فصل الهوية الوطنية في الدستور، قائلا: “يوجد حديث عن روافد أساسية من بينها الإسلامي العربي. ولا بد من التساؤل عن العلاقة بين النصف الأول والثاني (بين المكونات والروافد)…والنص الدستوري لا يضع في المستوى نفسه الرافد العربي الإسلامي، والرافد الأمازيغي، والحسّاني، وهي مكونات داخلة في علاقة (ربما) ميتونيمية (كناية)، ما يحتاج أيضا إلى توضيح”.
ومن بين ما ذكره بوكوس أن “الحديث حول المكوّن الأندلسي يحتاج أيضا إلى كثير من التحليل؛ لأن الكثير منا يقول إنه من أصول أندلسية، لكن الأصول الأندلسية تنحصر في بعض العائلات في خطابات معينة؛ في حين أن الأمر يحتاج إلى تحليل تاريخي وسوسيولوجيّ ثقافي، فهناك عناصر من جهات غير ناطقة بالعربية ساهمت في فتح الأندلس وإعماره. والتفكير في الثقافة الأندلسية مطلوب؛ لأننا نلاحظ اليوم احتكار البعض لهذا الأمر”.
“التسامي بالجذور”
الأكاديمي والناقد عبد الرحمان طنكول تساءل: “كيف ينظر إلينا الآخر؟”، مجيبا: “شعب الأحرار. الأمازيغي هو الرجل الحر. وبالنسبة للإغريق كانوا يسمون المغرب بلاد غروب الشمس”، ثم تذكر مقالة “اقتلاع الجذور” أو بالأحرى “التسامي بالجذور” لعالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي، ليقول: “الشخصية المغربية تتميز بالقدرة على نسيان الوجود في الوجود، أي القدرة على التجاوز واقتلاع الجذور والتسامي. ومن الملامح الأساسية للشعب المغربي الهجرة”.
“بالتالي لا حديث عن الأندلس دون حديث عن المرابطين والموحدين والمرينيين، بوصفها سلالات أظهرت قدرة المغربي على التجوال والارتقاء بالجذور، ونسيان الوجود في الوجود”، يورد المتحدث، ثم ذكر أنه “عندما تكون للشعر قدرة التسامي يؤطر الحضارة في المستقبل وذاكرة المستقبل”.
ودافع طنكول عن أن “التسامي بالجذور روح إنسانية وكونية؛ فلا ينبغي أن نسقط في الماهِياتية، فهذا يتناقض مع السمو بالجذور، والمغاربة الآن يعيشون عبر العالم، ومغاربة العالم في مختلف البلدان يعيشون التسامي بالجذور”.
الأكاديمي عبد الفتاح الحجمري أضاف إلى قول طنكول أيضا ملاحظة حول “التسامي بالجذور” قائلا إن “المرابطين لم يتوجهوا إلى الأندلس فقط، بل إلى السودان الغربي أيضا”، منبها إلى هذا البعد الإفريقي في المغرب واهتمام أناسِه عبر التاريخ.
الإعلامي عبد الصمد بن الشريف، مدير القناة الثقافية المغربية، عبّر من جهته عن أنه “كان من المفروض أن تكون الندوة حول الهوية المغربية عبر التاريخ والتراث، لأنها كانت ستكون أشمل”، متسائلا: “فهل نسافر للتاريخ لنجد حلولا للمستقبل؟ ولنشذّبه ونزيل منه السرديات غير الصحيحة؟ أم لتأطير الحاضر؟”.
ثم استرسل المتحدث معبرا عن تخوفه من “السقوط في نوع من النرجسية؛ لأنه يصعب على من هو من خارج المغرب فهم مكونات الهوية المغربية وكيف تشكلت، وهذه ندوة ينبغي أن تكون بالمغرب”، وزاد: “والمغاربة انصهروا في ما بينهم عبر التاريخ مع الأمازيغ والرومان والبيزنطيين واليهود وغيرهم… لكن لا نريد (تغذية خطاب) التحليل الجيني لمعرفة مَن الأمازيغي والعربي ومن سبق، وكأن المغرب قوة مفارقة لا تخضع للتاريخ، رغم خصوصيتها التاريخية اللغوية الحضارية، وخصائصها التاريخية”.
وفي خطاب ينبذ التقوقع الهوياتي والتوجهات العنصرية العرقية “التي توجد اليوم في التواصل الاجتماعي، حربا واضحة”، ذكر بن الشريف أن “قِدَم جمجمة لا يثبت أن المغرب قوة رهيبة عظمى؛ فعلينا التنسيب، والتسلح بالموضوعية والعقلانية”.