تزخر المملكة المغربية بخصوصيات ثقافية ودينية تجعل منها نموذجا فريدا في محيطها الجغرافي، خاصة فيما يتعلق بالتمازج الذي حصل بين الدين الإسلامي من خلال المذهب المالكي وبين الثقافة الأمازيغية كامتداد هوياتي للمجتمع المغربي، إذ تمكن “إيمازيغن” من تكييف شعائر الإسلام وتعاليمه مع أعرافهم وعاداتهم التي ظلوا محافظين عليها، بل وساهموا في نشره وإيصاله إلى مناطق جغرافية متعددة.
وبالتوازي مع التطور والإصلاح اللذين شهدهما الحقل الديني بالمغرب، تظل مسألة تعزيز مكانة اللغة الأمازيغية، التي دسترها المغرب، في المجال الديني تشغل بال عدد من الفعاليات والنشطاء الذين يطالبون الوزارة الوصية على القطاع بإدراج “لغة إيمازيغن” في المساجد والمدارس العلمية العتيقة، خاصة في خطب الجمعة، من أجل تفعيل دورها في الخطاب الديني لتسهيل فهم تعاليم الدين لفائدة جميع أفراد المجتمع المغربي، خاصة في المناطق القروية التي يظل أهلها مرتبطين بلغتهم الأم.
فتح باب الاجتهاد
عبد الله بوشطارت، دكتور في التاريخ عضو مجموعة الوفاء للبديل الأمازيغي، قال إن “المغرب يتميز بخصوصيات كثيرة تجعله ينفرد عن باقي البلدان، خصوصا في أشكال التدين وأنماط ممارسة طقوسه وشعائره الدينية. فعلاقة المجتمع المغربي بالإسلام هي علاقة تثاقف تتجدد باستمرار بين الإسلام كشعائر دينية وبين الثقافة الأمازيغية التي كيفت الإسلام وبيئته في المجتمع خلال سيرورة زمنية طويلة مرت بفترات تجاذب وصراع ثم تحقق التكامل داخل بنية التاريخ، لا سيما بعد ظهور ملامح وحدة المذهب المالكي الذي ساهم الأمازيغ في تقعيده وانتشاره”.
وأضاف بوشطارت أن “المذهب المالكي ساهم في استيعاب واستمرار القوانين والأعراف الأمازيغية وأيضا في تداول اللغة الأمازيغية في المجال الديني، ولذلك حافظت الأمازيغية على حضورها وقوتها واستمرارها في تفاعلها مع الدين. لكن بعد دخول الاستعمار إلى المغرب في القرن العشرين، طرأت تحولات كثيرة مست جوهر التدين المغربي، فظهر إسلام المدينة والبرجوازية وتوارى إسلام القرية والقبيلة، وتم إدخال العروبة إلى الإسلام المديني الحضري في قالب أيديولوجي للدفاع عن استقلال البلاد ومواجهة الاستعمار، فظهر شعار العروبة والإسلام كشعار سياسي للحركة الوطنية التي اقتنعت بالسلفية الوطنية”.
وتابع المتحدث لهسبريس بأن “الدولة المغربية فطنت غداة الاستقلال إلى هذا الأمر، فحاولت قطع الطريق أمام الإسلام السلفي والحركي المسيس بتعيين المؤرخ المختار السوسي رحمه الله وزيرا للأوقاف العمومية ووزيرا للتاج، لأنه أمازيغي سليل أسرة صوفية ووالده مؤسس وشيخ الزاوية الدرقاوية. كان المختار السوسي يمثل الإسلام الأمازيغي، وكانت له خلافات مع رجال الحركة الوطنية الذين كانوا يعارضون الزوايا والطرق الصوفية والأعراف الأمازيغية”.
وأشار بوشطارت إلى أن “المخزن المغربي كان صريحا وواضحا في اختياره لشخصية أمازيغية متشبعة بالإسلام المغربي الأمازيغي المعتدل والوسطي. والشيء نفسه حدث بتعيين المؤرخ والأديب الأمازيغي أحمد التوفيق وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية بعد الأحداث الإرهابية الأليمة في 16 ماي 2003، ليتولى ويشرف على إصلاح عميق للشأن الديني وحماية المغرب من تنامي التيارات الدينية والسلفية المتطرفة الوافدة من الخارج، التي كانت تهدد خصوصيات وثوابت المغرب والإسلام الأمازيغي”.
وشدد عضو مجموعة الوفاء للبديل الأمازيغي على أن “وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية توفقت في الإصلاح وفي الحفاظ على الإسلام المغربي، وحماية المساجد وأماكن العبادة من الأيديولوجيات المتطرفة، ومن العروبة أيضا. غير أننا نطالبها بفتح باب الاجتهاد داخل المذهب المالكي للسماح للأئمة والفقهاء الأفاضل بإلقاء خطب يوم الجمعة وأيام العيد بالأمازيغية، حفاظا على هذه العادة التي كان المغاربة يمارسونها في مساجدهم، وأيضا بتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية وإدراج مادة تدريس اللغة الأمازيغية في جميع المدارس العتيقة التي تشرف عليها وزارة الأوقاف، وإدراج الأمازيغية وحروفها تيفيناغ في كتابة أسماء المساجد في كل مناطق المملكة”.
تقريب للعبادات
من جهته، قال أبوبكر أنغير، رئيس العصبة الأمازيغية لحقوق الإنسان، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية حول الموضوع ذاته، إن “استعمال اللغة الأمازيغية في المساجد والمدارس العلمية العتيقة بالمغرب يعد أمرا ضروريا وأساسيا لشرح مضامين الفقه الإسلامي وتقريب العبادات للمتدينين بطريقة سهلة وسلسة، خصوصا في المناطق التي لا يعرف أهلها العربية”.
وأوضح أنغير في تصريحه أن “وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مطالبة بدعوة الخطباء لاستعمال الأمازيغية في خطب يوم الجمعة وفي دروسهم الدينية لتسهيل إيصال مضامينها للأمازيغ، خصوصا في العالم القروي، إضافة إلى إدراج هذه اللغة الدستورية في معاهد تكوين أطر الأوقاف والشؤون الإسلامية”.
وتابع رئيس العصبة الأمازيغية لحقوق الإنسان بأنه “لا يعقل أن يتكلم الفقيه أو الخطيب أو المرشد عن أمور حياتية أو دينية أساسية وحيوية بالنسبة للمواطنين بلغة عربية فصحى لا يفهمها الجميع. ولتحقيق أهداف ومبتغى الخطب الدينية، يجب أن تكون باللغة الأصلية التي يفهمها المتلقون، وإلا ستصبح مجرد قول مكرر مبهم لدى المستمعين”.
تطويع الألفاظ
وفي سياق مماثل، أشار إبراهيم الطاهيري، باحث في التاريخ الديني والاجتماعي، إلى أنه “انطلاقا من خطة تسديد التبليغ التي جاءت بها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وعممتها كقاعدة عمل توجيهية لخطب الجمعة، حتى تستقيم مع حياة الناس وتلبي احتياجاتهم الروحية لتحقيق الحياة الطيبة، بات لزاما على دعاة وأئمة المساجد والخطباء، وقبلهم الوزارة الوصية، النظر إلى الوسائل قبل الغايات”.
وزاد شارحا: “نعني بذلك النظر إلى الوسائل التي تتم بها خطبة الجمعة، على اعتبار أن الوسائل هي المناطات التي من خلالها تُدرك الغايات. أولى هذه الوسائل هي آلية اللغة والتواصل؛ إذ لا يمكن أن نتحدث عن خطة تسديد التبليغ والمتلقي لا يفهم ولا يدرك معنى الخطبة أو يفتقر إلى آليات التواصل التي من خلالها يمكنه استيعاب معنى الخطبة”.
وأشار الطاهيري إلى أن “استعمال اللغة العربية الفصحى من طرف الخطباء، واستخدام ألفاظ مختارة بعناية ومستعصية أحيانا على الفهم حتى عند النخبة، يعيق تحقيق أهداف هذه الخطة”. وأكد في سياق الحديث عن الأمازيغية أن “بعض الخطباء يجتهدون من تلقاء أنفسهم ويقدمون خطبا باللغة الأمازيغية يشرحون فيها الخطبة ومضامينها، بينما تُلقى الخطبة الرسمية باللغة العربية وجوبا؛ إذ صار الإلقاء بالعربية من الواجبات تبعا للمذهب المالكي”.
وأكد الباحث في التاريخ الديني والاجتماعي أن “التوسع في هذا المجال استنادا إلى المالكية، التي تدعو إلى الاستحسان وما جرى به العمل، أمر ضروري لتحقيق أهداف خطة تسديد التبليغ؛ فعندما يعي المأموم معنى الخطبة، فإن توفير الحياة الطيبة للناس سيتحقق بلا شك”. وشدد على ضرورة أن “تكون الخطبة بلسان القوم، خصوصا في المناطق غير الناطقة بالعربية، التي لا يفهم أهلها سوى الأمازيغية. وعليه، يجب تهذيب الألفاظ وتطويعها وفق اللغة التداولية، وأن ينزل الخطيب من برجه العاجي ليفهم واقع الناس من جهة، وليفهموا لغته من جهة أخرى”.