قصةُ مملكة، عبر التاريخ، وقصة تعاقب في الحضارات، والألسن، ورحلةٌ عبر شواهد التعدد والغنى الثقافيين في الآثار والمعارف والألبسة والأغذية والأنغام وأساليب العيش، وتوثيق لمغرب معاصر بعيون التظاهرات الدولية والوطنية التي يحتضنها وينظمها؛ كل هذا انتظم في فضاء على بعد خطوات من “متحف الفن الإسلامي بقطر” تسمى بـ”دار المغرب”، خلال فعاليات “السنة المغربية القطرية 2024”.
هاته الدار مغربيةُ المعمار والأثاث؛ رياض بالدوحة، يفصل بين بيوته، أروقتِه، بستان بنافورته، وزرقة، وزليج، تبدأ قصتها الإنسانية، مع أثر أقدم إنسان عاقل في العالم، عُثر عليه بجبل إيغود وأثبتت الفحوصات أن تاريخه يعود إلى 315 ألف سنة، مما يجعل المغرب، وفق أحدث الاكتشافات “مهد الإنسانية الحديثة”.
وقبل 9 آلاف سنة، يعرف زوار الدار باللغتين العربية والإنجليزية، بأول آثار وجود الأمازيغ بشمال إفريقيا، مردفا أنهم “يشكلون الركيزة الأصلية للمغرب”، لينتقل بعد ذلك على حضارات استقرت بالمغرب، أو تبادلت معه اقتصاديا وثقافيا، أو بسطت سيطرتها عليه حسب تقلبات مالكي البسطة في العقل والجسم والعتاد: الفينيقيون ابتداء من القرن الثاني عشر قبل الميلاد، القرطاجيون في القرن السادس قبل الميلاد، وصول أول هجرات تجمعات يهودية الديانة، “المملكة المورية”، الرومان الذين عُرف معهم الجزء الشمالي من المغرب بـ”موريطانيا الطنجة” وصار جزءا من الإمبراطورية الرومانية، الوندال الجرمانيون الذين أغاروا على إفريقيا الرومانية، البيزنطيون الذين طردوهم، ثم أول هجومات أموية لاقت “مقاومة شديدة”، و”الفتح الإسلامي” الذي اعتنق معه “الأمازيغ الإسلام، وأدمجوا اللغة العربية، مع الحفاظ على خصوصياتهم الثقافية”.
بعد هذه المرحلة، يتطرق الخط الزمني إلى ارتباط مصير المغرب والأندلس، وضم الأندلس إلى المغرب في فترات تاريخية، ويهتم بروابط المغرب مع جنوب الصحراء الإفريقية التي “يرجح أن تعود إلى عصور ما قبل التاريخ”، وتنميتها قبل الإسلام وبعده “التبادلات الثقافية” التي شكلت “المكون الإفريقي للهوية المغربية”.
وفي محطة تفصل في السنوات الثلاثمائة بعد الألف، ينفتح كتابٌ أمام الزائر يحكي قصة الملوك المغاربة مسلمي الديانة، وسلالاتهم، والمناطق التي تمغربت، عبر خرائط تكبر وتصغر مع تقلبات الأزمنة وأزماتها.
وفي رؤية العالم، تقدم “الدار” للزوار خرائط صورته، مستبطنة تصورات له، مع اهتمام بموقع المغرب فيها بوصفه “ملتقى طرق لأعظم الحضارات” وشاهدا على “ملاحم تاريخية كبرى”.
من بين هذه الخرائط خريطةٌ رسمها الشريف الإدريسي ابن سبتة المغربية قبل احتلالها، وكانت أبرز خرائط عصره وما بعده، واعتمدت، أمدا، لا في المنطقة التي ينتمي إليها فحسب بل في أوروبا، مع استبطانها رؤية خاصة للعالم مختلفة التصور للمركز وما دونه.
في “دار المغرب” لا تحضر حكاية “الأمة المغربية” وسرديات التاريخ الجمعي فقط؛ بل يسلط الضوء أيضا على تاريخ يسنده علم الآثار والأرشيف، مبرزا ثمار كشوفات، ومواقع ومدنا ومواريث شاهدة على العراقة، أدرجت عبر عقود القرنين الحالي والسابق ضمن لائحتي التراث العالمي للإنسانية.
وفي قاعة “ملموسة” لا منظورة فقط، يجد زائر “دار المغرب” الشاي المغربي المنسم بـ”الورد”، والمنسوجات، والمدبوغات، والقفاطين، مع تاريخها، وذكر لانتشارها العالمي، والاستلهام المستمر لهذا “التراث الحي” الذي لا يزال إلى اليوم “اللباس المفضل للمرأة المغربية”.
المغرب يحضر أيضا من خلال أعماله المرسومة والتشكيلية، سواء كما قدمه “المستشرقون”، أو كما استلهم منه الفنانون التشكيليون المغاربة، وكما يعيش اسمه من خلال الفنانين المغاربة المعاصرين القاطنين بالبلاد والعالم.
في قاعة أخرى تؤثثها الآلات الموسيقية التي يُعرف بألحانها مغربُ اليوم؛ يجد الزائر التبوريدة، أي الفروسية المغربية، وذكريات مصورة لمؤتمرات مثل القمة الإسلامية التي يسلم فيها الملك الحسن الثاني على الرئيس ياسر عرفات بكوفيته الفلسطينية قوية الدلالة، ومؤتمر الدار البيضاء للقادة الأفارقة، وقمة المناخ العالمي، ومهرجان مراكش الدولي للفيلم، ومهرجان كناوة وموسيقى العالم، وتظاهرات رياضية وسياسية ودينية وثقافية أخرى محلية ودولية.
في هذه المحطة “المغرب أرض للقاء”، لا تجد شرعيتها في الماضي فحسب بل في حاضر متعدد، وتطلع للمستقبل، تستحضر الأحداث القريبة، مثل موعد “كأس العالم بقطر” وتموقع الفريق الوطني فيه، والإعداد لكأس العالم الذي سيستقبله المغرب في المستقبل القريب، ومواعِد عالمية أخرى.
“دار المغرب” مقتطف من قصة المملكة الضاربة في التاريخ، برسالة ترافق الزائر: رسوخ في المكان والزمان، وتعدد ثقافي ولساني متأصل لا ركود في هويته، وتاريخ ديني وعلمي ومعرفي، لكن ليس هذا فقط، بل بحث مستمر عن موقع أرسخ في حاضر الإنسانية، وتطلع إلى مستقبل يستمر فيه المغرب مغربا معاصرا، غنيا بماضيه، متجدد الروح والعمل.