يوم عادي من أيام مدينة الفنيدق، جولة قصيرة في الشوارع كانت كفيلة بلقاء عشرات الشباب ممن يفكرون في الهجرة، بينهم أطفال لم يبلغوا سن الرشد بعد، ومنهم عمر (اسم مستعار)، 13 سنة، اشترى كل الأغراض اللازمة للسباحة ليلا، أزيد من عشر محاولات فاشلة لم تمنعه من تكرار التجربة.
خلال حديثنا مع عمر أكد أنه سيقوم بمحاولة أخرى خلال تلك الليلة، معتبرا أنه “لا أمل له بالبقاء في الوطن”، بل أكثر من ذلك صرح بأن “الخوف من الموت غرقا لا يثنيه عن محاولاته المتكررة”.
حال هذا الطفل شبيه بحال شباب وأطفال كثر، كل حلمهم الوصول إلى الضفة الأخرى من البحر، يتركون أمهات مكلومات يعشن خوف الفقد، كل رغبتهن مستقبل آمن لأبنائهن وأكبر مخاوفهن أن يأخذهم البحر ويعيدهم جثثا هامدة.
من بينهن ربيعة، أم لأربعة أبناء، من بينهم شابان كل تفكيرهما منصب على الهجرة غير الشرعية. تقول هذه الأم في لقائها مع هسبريس: “حتى الدراسة لم يعودوا يركزون فيها، فهم لا يفكرون إلا في لحْريكْ. ينامون ويحلمون بالهجرة، ويستيقظون وهم على الحال نفسه”، وتؤكد أن أبناءها قاموا بمحاولات متكررة للهجرة سباحة للوصول إلى سبتة، كان آخرها قبل أيام حينما تلقت اتصالا يخبرها بأن أحدهم أعادوه من الحدود ونقلوه إلى مارتيل في الخامسة صباحا.
وتضيف: “اتصلوا بي في تلك اللحظة ليخبروني بأنهم رأوه في الحافلة المتوجهة إلى مارتيل. أسرعت إلى هناك، لكنهم أخبروني بأنه لم يعد موجودا، فعدت أدراجي. قضيت ساعات في البحث عنه لدى الجمارك. تنقلت بين ست سيارات للشرطة، حينما لم أجده فقدت صوابي وأخذت أبكي وأصرخ، أضرب رأسي بالجدار، وأردد في حسرة: مشا ليا يونس!”.
وتتابع: “بعد ثلاثة أيام من البحث المتواصل، وفي الثانية ليلا، ذهبت مرة أخرى إلى مارتيل، وهناك بدأت أستعيد بعض الأمل حينما أخبروني بوجوده”.
وتواصل: “حين رآني، كان مصدوما، متحسرا بعدما قطع كل تلك الطريق وأخرجوه من سبتة. يرى أبناء الحي الذين سبقوه فيشعر بالإحباط، يقول لي: الكل غادر، ولم يعد هناك أي أمل هنا”.
وتشدد الأم ربيعة على أن “الدراسة لم تعد تجدي نفعا بالنسبة إلى أبنائي. هم يعيشون هوس الهجرة، وأنا أعيش في عذاب دائم معهم. الأمر صعب جدا، وأنا أتحمل عبئا لا يوصف. أخاف أن يفقدوا حياتهم في البحر. لا أستطيع أن أتصور فقدان أحد أبنائي. مهما كان الثمن، لن أتخلى عنهم”.
الهجرة من الشمال
اعتاد سكان مدن الشمال هجرة أبنائهم، خاصة في السنوات الأخيرة، تدهور الأوضاع الاقتصادية رافقه تزايد في المحاولات، لا سيما بعد إغلاق معابر كانوا يستغلونها للولوج إلى ثغر سبتة المحتل.
يقول منصف الطوب، نائب برلماني ينتمي لحزب الاستقلال عن دائرة تطوان، إن “إشكالية الهجرة تعود إلى ظروف وأحداث سابقة، مثل إغلاق معبر باب سبتة”، متابعا ضمن تصريح لهسبريس: “كما نعلم، فإن نسبة كبيرة من سكان المضيق، الفنيدق وإقليم تطوان كانوا يعتمدون على التهريب المعيشي كمصدر رزق، ورغم أنه يؤثر سلبا على اقتصاد بلدنا، ولا نشجع استمراره، لكن الضروري في هذه الحالة هو توفير بدائل حقيقية”.
ويضيف الطوب: “عند النظر إلى المناطق الحدودية، سواء في المضيق والفنيدق أو جهة الناظور، نجد أن نسبة كبيرة من السكان كانت تعتمد على التهريب المعيشي، مما يجعل من الضروري إيجاد حلول فعالة. صحيح أنه تم اتخاذ بعض الإجراءات بعد إغلاق المعبر، لكن أغلبها كان جزئيا أو حلولا ترقيعية”.
ويذكر البرلماني ذاته، الذي يمثل الأغلبية الحكومية، أن “من بين الحلول التي تم اقتراحها، إحداث منطقة للأنشطة الاقتصادية في الفنيدق، التي جذبت عددا من التجار الذين نقلوا مستودعاتهم إليها. ولكن رغم هذا، لم توفر المنطقة فرص عمل كافية، إذ لم يكن مستوى التشغيل فيها متناسبا مع حجم المتضررين”.
ويردف: “ما نحتاجه فعليا هو حلول اقتصادية حقيقية ومستدامة. فعلى سبيل المثال، توجد المنطقة الصناعية في تطوان، لكنها تفتقر إلى النشاط الصناعي الحيوي، إذ تتكون أساسا من مستودعات وليس مصانع حقيقية. لهذا، من المهم أن تعمل الجهات المعنية، مثل وزير التجارة والصناعة ووزير التشغيل، على تشجيع المستثمرين وتوجيههم نحو هذه المناطق بدلا من الاقتصار على المدن الكبرى”.
ويتابع النائب البرلماني عن دائرة تطوان قائلا: “نحن قريبون من القطب الاقتصادي الثاني في المغرب، وهو طنجة التي أصبحت مشبعة صناعيا. لذلك، يمكن توسيع المجال الصناعي والاقتصادي نحو تطوان، خاصة أن لدينا منطقة صناعية قائمة بالفعل تحتاج فقط إلى توجيه ودعم أكبر”.
أحداث 15 شتنبر
عاشت البلاد أحداثا جعلت الهجرة تتحول من محاولات فردية إلى جماعية، ولم تعد سرية، بل معلنة حددوا لها موعدا، وانتقلت جماعات من الشباب لمحاولة عبور الحدود دفعة واحدة.
شباب وأطفال حجوا من مختلف مدن المغرب، منهم من يحمل جنسيات مغايرة، اختاروا خوض مغامرة الموت بحثا عن الحياة، في مشاهد تطرح أكثر من سؤال حول الأسباب التي تجعل أطفالا صغارا يسلكون طريق الهجرة.
يقول الطوب: “في تاريخ 15 شتنبر برزت نقطة أخرى تستحق الوقوف عندها، فقد لاحظنا وجود أطفال تتراوح أعمارهم بين 12 و15 عاما ضمن من يرغبون في الهجرة.
وهنا يمكن أن نتساءل: هل هذا المشكل ذو طابع أسري؟ هل الأسر هي من تدفع بأبنائها نحو هذا المسار أم إن هؤلاء الأطفال هربوا من بيوتهم؟”.
ويورد الطوب أن “هذا الطفل، بالنظر إلى صغر سنه، لم يبلغ بعد مرحلة النضج، ولم يتعلم مهنة، ولم يكمل دراسته. لا يمكن القول بأنه فقد الأمل في المستقبل، فهو ما يزال في مقتبل العمر. أما بالنسبة لفئة الشباب الأكبر سنا، فقد رأينا أن هناك من يأتي من مختلف أنحاء المغرب، وهو ما يعزى إلى ارتفاع نسبة البطالة التي بلغت أكثر من 13 بالمائة”.
ويتساءل البرلماني نفسه: “لماذا تصل نسبة البطالة إلى هذا الحد؟”، مجيبا: “هذا يعني أن هناك خللا في استراتيجية التشغيل. وعندما نتحدث عن المسؤولية، فإنها لا تقع على جهة واحدة فقط، بل هي مسؤولية جماعية”.
ويعتبر المتحدث أن “استمرار البطالة وعدم توفر فرص عمل، واقع يعكس إشكالية أعمق تتعلق باستراتيجية الحكومة في التعامل مع هذه المشكلة”.
ويؤكد: “تقع على الحكومة مسؤولية توفير بدائل وفرص حقيقية من خلال وضع استراتيجيات فعالة للحد من البطالة”، خاتما: “نأمل من الله أن تتحسن الأوضاع قريبا، خاصة مع وجود إرادة حكومية لتنفيذ استراتيجيات جديدة وإيجاد حلول ناجعة”.
مقاربة أمنية
اختارت البلاد مقاربة أمنية، اعتقالات ومحاكمات في صفوف المهاجرين، إذ أعلنت الحكومة تقديم مائة واثنين وخمسين شخصا أمام أنظار العدالة، وأصدرت أحكاما ابتدائية في حقهم.
يقول محمد أشكور، محام بهيأة تطوان حضر أطوار محاكمة عدد من الشباب المعتقلين على خلفية أحداث 15 شتنبر: “من الناحية القانونية، يثار تساؤل كبير حول هذه الهجرة: هل يمكن اعتبارها فعلا هجرة سرية أم هجرة علنية؟ فالجميع اليوم يجمع على أنها كانت هجرة علنية وجماعية، تختلف عن الهجرة السرية التقليدية التي تحدث عادة ليلا وفي مجموعات صغيرة وبشكل متخف”.
ويؤكد المحامي وجود “نقاش قانوني حول كيفية تصنيف هذه الظاهرة”، مشيرا إلى أنه “تم إلقاء القبض على مجموعة من الشباب وتمت متابعتهم قضائيا بتهم متعددة، من بينها تنظيم وتسهيل خروج الأشخاص خارج التراب الوطني. كما تم اتهام آخرين بالعصيان والتحريض على ارتكاب جناية أو جنحة. وبالإضافة إلى ذلك، تمت متابعة آخرين بتهمة ممارسة العنف ضد رجال الأمن والقوات العمومية. كما وجهت إلى بعض المتابعين تهم تكسير الممتلكات والتخريب. ولكل جريمة أو جنحة من هذه الجرائم نص قانوني ينظمها ويحدد عقوبتها”.
ويشرح المحامي ذاته أن “العقوبات يمكن أن تختلف وفقا لظروف التشديد. فعلى سبيل المثال، في حالة التحريض، يتم النظر فيما إذا كان قد تم من قبل شخص واحد أو مجموعة، وما إذا كان المحرض يتزعم تنظيما، أو كان يقوم بالتحريض علنا ويحمل أسلحة. إذا توافرت هذه الظروف المشددة، ترتفع العقوبات بشكل كبير، ولا تبقى محصورة في أشهر من الحبس، بل قد تصل إلى سنوات أو حتى عشرين سنة في بعض الحالات”.
ويخلص أشكور إلى القول إن “هذه المتابعات القضائية تعكس مدى تعقيد هذا النوع من القضايا، خصوصا حينما تتداخل فيها جرائم عدة وظروف مشددة تزيد من حدة العقوبات”.
أرقام حول الهجرة
ذكرت وزارة الداخلية الإسبانية بأن التعاون الوقائي المتطور بين إسبانيا والمغرب عام 2023 أدى إلى انخفاض بنسبة 41,6 بالمائة في عدد الوافدين غير الشرعيين إلى سبتة ومليلية، لكن المقاربة الأمنية ليست دائما رادعة، مع توقعات بأن تزداد الأوضاع سوءا إن لم تكن هناك حلول واقعية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية.
وكشفت الوزارة عن إفشال أزْيد من 54 ألف محاولة للهجرة غير النظامية منذ مطلع السنة الجارية وحتى بداية شتنبر الماضي. تم إحباط أكثر من 11 ألفا و300 محاولة على مستوى عمالة المضيق، وأكثر من 3300 محاولة على مستوى إقليم الناظور. كما فككت الأجهزة الأمنية 177 شبكة إجرامية تنشط في تهريب المهاجرين، فيما تم إنقاذ ما يفوق 10 آلاف و500 مهاجر في عرض البحر.
تشير تقديرات المنظمة الدولية للهجرة إلى ارتفاع أعداد القتلى والمختفين بين المهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط على مر السنين، إذ ارتفعت من 2048 شخصا عام 2021 إلى 3041 بنهاية عام 2023، هؤلاء أشخاص تركوا عائلاتهم خلفهم؛ لا هم أحياء يرزقون، ولا موتى تدفن أجسادهم. هي مآسي الهجرة في مسالكها الصعبة.
الهجرة غير الشرعية ليست مجرد أرقام وإحصائيات، بل هي قصص ألم ومعاناة لأشخاص اختاروا المخاطرة بأرواحهم بحثا عن أمل بعيد وحياة كريمة؛ تتقاطع فيها أحلام الشباب وطموحات العائلات مع واقع مرير من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
لكن الحلول الأمنية وحدها لا تكفي لإيقاف هذا النزيف. يبقى السؤال مفتوحا: ما الذي يدفع هؤلاء إلى ترك أوطانهم رغم المخاطر؟ وإلى متى ستظل قوارب الموت ملاذا أخيرا للباحثين عن فرصة للحياة؟
" frameborder="0">