أخبار عاجلة

الحموتي .. مغربي داعم للمقاومة الجزائرية يختفي في "الجارة الشرقية"

الحموتي .. مغربي داعم للمقاومة الجزائرية يختفي في "الجارة الشرقية"
الحموتي .. مغربي داعم للمقاومة الجزائرية يختفي في "الجارة الشرقية"

تحتفظ مدينة بني أنصار الواقعة في النفوذ الترابي لإقليم الناظور بذاكرة تاريخية حيّة ينطوي عليها منزل المقاوم المغربي محند الخضير الحموتي، الذي احتضن بين جدرانه أعمدة المقاومتين المغربية والجزائرية.

منزل يقع على بعد خطوات من ميناء بني أنصار في حي إحَمُّوتَين، كان بالأمس القريب ينبض بحيوية مقاومة المستعمر الأوروبي لدى شباب مغاربي اجتمعت همتهم القويّة على تخليص الوطن من براثن الأطماع الإمبريالية وقيادته نحو الحرية والاستقلال، وأضحى اليوم مجرد أطلال مهجورة ومتداعية، عرضةً لعوادي الزّمن التي تنهش بنيانه باستمرار مع مرور الزمن.

ذاكرة منسية تختزن أحداثا تاريخية بمثابة صفحات مجيدة في دفتر تحرير البلدين، لم ينل حظّه من الاهتمام والتوثيق وتسجيله تراثا ثقافيا ماديا كبناية تاريخية أوَت أسماء تاريخية ثقيلة، من قبيل أحمد بنبلة ومحمد بوضياف وكريم بلقاسم والحسين آيت أحمد ومحمد شعباني ورشيد مستغانمي والحسين كادري والعربي بن المهيدي… من قادة الثورة الجزائرية؛ وعباس المساعدي وعبد الله الصنهاجي وحدو يقشيش وإبراهيم القاضي… من قادة المقاومة المغربية.

وعلى غرار منزله، لم ينصف التاريخ محند الخضير الحموتي، الذي قل من يعرف تفاصيل حياته الحافلة بالأحداث التاريخية الحاسمة، سوى حفنة من المهتمين بتاريخ الريف والباحثين من الطلبة والدّارسين، ويكاد لا يُذكر اسمه مقارنة بأمثاله من الخالدين في الذاكرة التّاريخية.

وإن كانت جائزة المقارنة بين إنسان وبناية فإن المنزل مازالت جدرانه المتداعية شاخصة بوجودها الصامد تتحدى العدم، أما الحموتي فالتهمه المجهول حينما وطأت قدماه بلاد الجزائر التي ناصرها بكل حب وشهامة، فكافأته بأن زجت به في غياهب العدم دون أن تمنحه شرف الاحتفاظ بقبر إنساني للأسرة والتاريخ والأجيال القادمة.

الجندي الإفريقي

محند الخضير الحموتي أو المعروف لدى العامة بلقبه “الجندي الإفريقي”؛ مقاوم مغربي ينحدر من الناظور، عاش أحداثا متميّزة خلال حقبة الاستعمار، جعلت منه بطلا تاريخيا له أدوار حاسمة في المقاومتين المغربية والجزائرية؛ ساهم بحياته وماله وبكل ما يملكه من قوة وعزيمة وإرادة قوية في دعم المقاومين، فجعل منزله مأوى لمختلف الأنشطة المنجزة في إطار أهداف موحدة منصبّة في اتجاه تحرير الوطنين المغرب والجزائر.

الخضير محند الخضير الحموتي، وهو نجل المقاوم الشهيد، يحكي عن والده قائلًا: “ولد بتاريخ فاتح فبراير سنة 1936 بمدينة بني أنصار إقليم الناظور، وفُقِد بالجزائر سنة 1964، وهو أب لخمسة أبناء وبنات، وينتمي إلى أسرة معروفة باشتغالها في التجارة، وكان والده التاجر الوحيد بالمنطقة الذي يجلب السلع من مدينة مليلية المحتلة ويوزعها على التجار بمختلف مناطق الريف”.

وتابع المتحدث ذاته: “لما كبر والدي اشتغل هو الآخر بالتجارة رفقة أبيه الذي كانت تربطه علاقات طيبة مع كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين ورجال الأعمال والمال الإسبان بمدينة مليلية، وهذا ما أهل والدي للانخراط، في وقت مبكر، في المجال العسكري، وبالتالي أن يلعب تلك الأدوار الحاسمة في مسار المقاومتين المغربية والجزائرية”.

دعم المقاومين

يشهد أرشيف الصور الذي تتوفر عليه عائلة الحموتي تواجد الأخير مع كبار الشخصيات الجزائرية والمغربية في مختلف المحطات التاريخية التي شكلت مسار المقاومة. لقد كان الحموتي منخرطا في خضم الاستعدادات والتحركات والأنشطة الثورية والسياسية التي كان يقوم بها المقاومون؛ يدعمهم ويساعدهم ويقدم لهم كل ما يحتاجون إليه، ويمهد لهم الطريق لإنجاز المهمات النبيلة لتحرير الوطن من قبضة الاستعمار.

يقول الدكتور محمد أحميان، أستاذ التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الأول بوجدة: “اتخذ دعم المقاوم محند الخضير الحموتي لقادة جيش التحرير في الشمال والثورة الجزائرية أشكالا عدة: من خلال تزويده الثوار بالمؤن الغذائية وتوفير المأوى لهم، وكذا الأدوية والأطباء من ثغر مليلية لمداواة المقاومين؛ ونظرا لدوره في توفير الأسلحة من مليلية تم اعتقاله سنة 1955 ومحاكمته من طرف المحكمة العسكرية بمليلية المحتلة بتهمة تهريب الأسلحة للثوار، وذلك قبل أن يطلق سراحه في ماي من السنة الموالية بعد أن شمله العفو”.

وتابع أحميان: “كما تجاوز دوره في توفير الدعم اللوجستيكي إلى الانخراط في العملية السياسية، من خلال مشاركته في مؤتمر الصومال السري سنة 1956، الذي كان من مخرجاته تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وهو ما يؤكد دوره الحيوي والثقة التي كان يحظى بها بين رفاقه في جبهة التحرير الجزائرية”.

تقليد مغربي أصيل

تشهد ذاكرة التاريخ دعم المغرب ومساندته الجزائر دائما في مقاومتها للاستعمار منذ فترة مبكرة، وليس الحموتي النموذج الوحيد لهذا الدعم الذي استفاد منه المقاومون الجزائريون في سبيل تحرير البلاد ونيل الاستقلال، فقد سبقه آخرون ساروا على النهج ذاته.

يقول الدكتور رشيد دوناس، باحث في التاريخ المعاصر – جامعة محمد بن عبد الله بفاس: “دور محند الخضير الحموتي في دعم جبهة التحرير الجزائرية هو استمرار لتقليد مغربي مبدئي وأصيل في الوقوف إلى جانب الجارة الجزائرية ضد مختلف أشكال الاستعمار الأجنبي؛ إذ سبق لقبائل الريف بالمغرب أن تطوعت لدعم الأمير عبد القادر الجزائري طيلة الثورة الأولى التي قادها ضد الاستعمار الفرنسي ابتداء من 1832 إلى غاية سنة 1847”.

وأضاف الباحث: “عندما انهزم الأمير عبد القادر وطارده الجنرال الفرنسي بيجو التجأ إلى الريف الشرقي بالمغرب، وتنقل بين قبائل الريف التي كان يجد فيها حرارة الاستقبال والمساعدة التامة قبل أن يستسلم”.

وأكد دوناس أن “دعم المغاربة هذا تم برعاية السلطان عبد الرحمان بن هشام الذي رفض الاستجابة لتهديدات الفرنسيين بوقف الدعم المغربي للجزائريين”، وزاد: “وهذه الأحداث تثبتها وتؤكدها مجموعة من الوثائق التاريخية الرسمية الموجودة في أرشيفات الفرنسيين والإسبان والإنجليز”.

دعم الجزائريين

مجموعة من العوامل توفرت في المقاوم محند الخضير الحموتي أهلته، من موقعه العسكري، لأن يلعب دورا جوهريا في دعم الثورة الجزائرية. هذه العوامل يجملها الأستاذ محمد أحميان في الانتماء العائلي، حيث ينتمي المجاهد محند الحموتي إلى عائلة من وجهاء منطقة الريف الشرقي، التي اشتهرت بأنشطتها التجارية؛ إذ كانت الممون الأساسي لأسواق منطقة الحماية الإسبانية بالبضائع المستوردة من مليلية المحتلة، وهو ما أكسبها موارد اقتصادية هامة، ومكانة اجتماعية مرموقة. أهلت هذه الخلفية السوسيو- اقتصادية الشاب محند الخضير للقيام بدور محوري في الدعم المادي للنضال المسلح ضد الاستعمار، مستثمرا في ذلك الموارد الاقتصادية للعائلة.

وكذلك شبكة العلاقات مع الإسبان، يتابع أحميان، “حيث إن انخراط العائلة في الأنشطة التجارية جعل المجاهد محند الخضير ينسج شبكة من العلاقات مع الإسبان، وخصوصا في مليلية، وهو الأمر الذي استفاد منه في قضية دعم الثورة الجزائرية، من خلال فتح منفذ آخر للحصول على الأسلحة انطلاقا من الموانئ الإسبانية، وكذا من منطقة جبل طارق التي كانت تعج بالمغامرين الذين ينشطون في تهريب الأسلحة”، مردفا: “وقد سخر السفن التي يمتلكها (ميليو رقم 1 وميليو رقم 2 وبيكتوريا) لنقل العتاد نحو شواطئ بني أنصار قبل أن تأخذ طريقها برا نحو الغرب الجزائري”.

ويستمر أحميان في ذكر عوامل دعم الثورة الجزائرية لدى الحموتي قائلا: “كذلك من أهم هذه العوامل الموقع الإستراتيجي لبلدة بني أنصار، وذلك من خلال بعد البلدة عن أنظار الفرنسيين الذين كانوا يراقبون حركة الملاحة في الساحل الجنوبي للمتوسط؛ إذ اعتادوا على انطلاق هذه الإمدادات من الشرق، فحالوا دون وصولها. وشكلت بلدة بني أنصار الساحلية ملاذا آمنا للسفن المحملة بالأسلحة، ولهذا الغرض تم تدريب فرقة ممن يُعرفون بـ’الضفادع البشرية’ للقيام بعملية الإفراغ بكل سلاسة؛ هذا إلى جانب قرب بلدة بني أنصار من مليلية المحتلة التي كانت تهرب منها الأسلحة لصالح لثوار”.

إرهاصات بارزة

في وقت كانت الأطماع الاستعمارية الفرنسية تتغلغل في أعماق البلدان المغاربية وتزداد سيطرة وبطشا واستبدادا كانت شرارة المقاومة اندلعت في مجموعة من الأقطار، سواء في المغرب أو الجزائر، لتحدّ من هذا الطغيان الاستعماري الذي ينهش خيرات البلدان، وتسعى نحو التحرير والاستقلال.

كان المغرب على وشك نيل استقلاله وإنهاء فترة الحماية الأجنبية وفتح صفحات جديدة من تاريخ يصنعه أبناء الوطن، في وقت تأخر هذا الحدث المأمول لبضع سنوات في الجارة الشرقية التي بدأت فيها شرارة المقاومة الاندلاع في فاتح نونبر سنة 1954، وكان فشلها في البداية مدعاة للبحث عن حاضن يأمن لها النجاح، فكانت الوجهة صوب المغرب.

في حديثه إلى هسبريس قال اليزيد الدريوش، باحث في تاريخ الرّيف: “نجحت الثورة الجزائرية التي اندلعت بتاريخ 01 نونبر 1954 في جميع أقطار البلاد، بطريقة عجيبة في الشرق الجزائري، فيما فشلت في الغرب فشلا ذريعا وبالتّحديد في مدينة وهران. ويعود ذلك إلى وجود من يسمّون أصحاب الأقدام السوداء (الفرنسيون الذين وُلدوا بالجزائر)، إضافة إلى أن المكان استوطن فيه جيش فرنسي كبير، وبالتالي يمكن القول إن الغرب الجزائري تحت قيادة محمد بوضياف كان أقل استعدادا للمقاومة مقارنة مع الشرق الجزائري الذي كانت تنشط فيه حركة المقاومة بقيادة مصطفى بن بولعيد، فكان لابد من البحث عن دعم ومساعدة”.

المقاومة بالمغرب

فشل المقاومة الجزائرية في الشرق كان كفيلا بتوجيه بوصلة الاستنجاد صوب المغرب الذي كان أبناؤه دوما داعمين للجزائريين في مقاومتهم للاستعمار؛ وهكذا اختار قادة الثورة الجزائرية الاتجاه نحو المغرب.

يعلق الدريوش على هذا الحدث قائلًا: “إن فشل الثورة في الغرب الجزائري أجبر القادة الميدانيين إلى اللجوء إلى منطقة الريف، وعلى رأسهم محمد بوضياف والعربي بن المهيدي وحسين كاردي ورشيد مستغانمي، وهنا ستكون بداية قصة منزل المقاوم المغربي محند الخضير الحموتي الذي سيأوي هؤلاء المقاومين”.

منزل الحموتي

بعد التحاق قادة الثورة الجزائرية صوب منطقة الريف، وبالتحديد إلى منزل الحموتي، سيتوالى المقاومون في بالالتحاق بالمكان نفسه مجموعاتٍ متفرقةً حتى أصبح المنزل مأوى للمقاومين الجزائريين.

يقول أحميان: “كان المقاوم محند الخضير الحموتي أبرز داعمي الثورة الجزائرية، وغدا بيت عائلته قاعدة خلفية للثوار، حيث استضاف كبار قادة الثورة”، ويتابع في حديثه إلى هسبريس: “شكل منزل عائلة المجاهد الحموتي مركزا لإيواء قادة الثورة الجزائرية من قبيل بومدين، وبن بلة، وكريم بلقاسم، وعبان رمضان، وبوضياف، وغيرهم؛ كما مثّل أيضا مركزا لعقد اجتماعات الثوار ووضع خططهم النضالية. والملاحظ أن هذه العلاقات تخطت ما هو نضالي، إلى درجة إطلاق اسم بوضياف على أحد أبناء المجاهد المغربي”.

يستأنف الدريوش رواية الحكاية: “بعد المجموعة الأولى ستلتحق مجموعة ثانية تتكون من عالي كافي ومحمد علاهو ومحمد خيضر ومحمد شعباني. بعدها بمدة قصيرة، ستلتحق المجموعة الثالثة هذه المرة من مصر، عندما سترسو باخرة دينا على سواحل منطقة كبدانة، وكان على متنها الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين والمجاهد نذير بوزار”.

والباخرة، بالمناسبة، يتابع الباحث في تاريخ الريف، “أرسلها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، رئيس لجنة تحرير المغرب العربي بالقاهرة آنئذن، بتنسيق مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وبدعم من ملكة الأردن دينا زوجة الملك الحسين بن طلال، وكانت محملة بالسلاح الموجه إلى المقاومين”.

المجموعة الرابعة، حسب الدريوش، ستلتحق سنة 1957 تحت قيادة المجاهد الجزائري بشير عقاب. “هذه المجموعة أسست في منزل محند الخضير الحموتي ثكنة عسكرية هي عبارة عن مدرسة لتكوين الضفادع البشرية بعد أن كان هذا المكان يأوي بين سنتي 1955 و1956 القادة والثوار الجزائريين”.

مخزن الأسلحة

لم يكن من السهل أن يتزود المقاومون بعُدّة السلاح في ظل المراقبة الشديدة التي فرضتها السلطات الاستعمارية، لذلك سيلجأ المقاومون إلى نقل السلاح سرّا باستغلال بعض الأماكن الخفية والبعيدة عن الأنظار، وكان منزل الحموتي واحدا من المخازن التي يتم إخفاء السلاح داخلها، قبل أن يُنقل عن طريق معابر آمنة إلى المقاومين بالجزائر.

يقول الدريوش: “كما هو معروف كان السلاح ينتقل من الريف إلى داخل الجزائر قادما أحيانا من حدود مدينة مليلية المحتلة، وأحيانا من جبل طارق على متن قوارب الساحل وفي أحيان أخرى من مصر”، ويتابع: “ولما رأت فرنسا خطورة تنقل السلاح من الريف إلى الجزائر عبر المعابر البرية أنشأت ما يُعرفان بالخطين ‘موريس’ و’شال’ المكهربين لمنع أي تسلل لمهربي الأسلحة من الريف إلى الجزائر؛ وكانت بين الخطين مساحة فارغة مزروعة بالألغام؛ وهي مساحة أكثر خطورة من الخطين نفسيهما”.

وحسب الباحث ذاته فإن الخطة الفرنسية خنقت الثورة الجزائرية من الداخل؛ لأن الخطين المكهربين جعلا الثورة الجزائرية تعجز عن التوصل إلى السلاح، ما اضطر قادتها إلى التفكير في بديل عن المعابر البرية. وبهذا الصدد تحكي المؤرخة الجزائرية الدكتورة سعيدي وهيبة، في كتابها الموسوم بـ” الثورة الجزائرية ومشكلة السلاح”، أن انتقال السلاح إلى الجزائر تحول إلى المسالك البحرية، حيث كانت الجزائر تستقبل السلاح بمعدل رحلتين في الأسبوع، وبمجموع ما بين 700 و800 قطعة سلاح في كل أسبوع.

مصدر انتقال هذه الأسلحة، يتابع اليزيد، “كان منزل محند الخضير الحموتي”، مردفا: “هناك حدث آخر له علاقة بالموضوع، وهو لما استجلب الجزائريون السلاح من لبنان على متن الباخرة البلغارية التي رست في ميناء طنجة. وتكلف تاجر الأسلحة اليهودي الألماني جورج بوتشير بنقل السلاح من ميناء طنجة إلى منزل الخضير الحموتي ببني أنصار على متن يخوته تشيروكي وروجابروجا والنجمة الحمراء. هذه اليخوت تكلفت بنقل السلاح من طنجة إلى ساحل بوقانا ببني أنصار، وبعدها كانت المهمة الأخيرة من إنجاز عناصر الضفادع البشرية الجزائرية التي كانت تتدرب داخل منزل المقاوم المغربي، حيث نقلت السلاح من عمق البحر إلى منزل الحموتي ومن منزل الأخير إلى الجزائر مباشرة”.

الضفادع البشرية

باستغلال منزل الحموتي كمأوى للمقاومين وتخزين السلاح وجدت الثورة الجزائرية، حينئذ، الأجواء الملائمة لتدريب عناصرها التي كانت تنتظرها الكثير من المهمات لإنجازها، وهكذا تم إعداد من يُسمون “الضفادع البشرية” داخل فضاء منزل الحموتي.

وبعد تدريبها بشكل جيد لمدة من الزمن أصبحت “الضفادع البشرية” مستعدة للقيام بما يوكل لها من طرف قادة الثورة الجزائرية من مهمات نقل السلاح وتنفيذ العمليات الفدائية، وبالتالي يمكن القول إن منزل الحموتي كان بمثابة “مدرسة عسكرية سرية” بمنطقة الريف.

يقول الدريوش: “من المهمات الفدائية البارزة التي قامت بها الضفادع البشرية التي تدربت بمنزل الحموتي الهجوم على ميناء طولون العسكري في جنوب فرنسا، الذي نجحت في تدميره بالكامل. كما قامت العناصر ذاتها بهجوم ثان كان على ميناء المرسى الكبير في وهران، حيث كانت ترسو السفن الحربية الفرنسية، وهو الآخر نال نصيبه من التدمير”.

ويضيف الباحث ذاته: “قامت الضفادع البشرية بالكثير من المهمات الحاسمة لإنجاح الثورة، ويحفظ لنا التاريخ الكثير من الأحداث المتعلقة بهؤلاء المجاهدين الذين كما قلنا تدرب الكثير منهم بمنزل الحموتي. وقبل مدة قصيرة تم تكريم أحد عناصر الضفادع البشرية المجاهدين الذي عاش في هذا المنزل ومازال على قيد الحياة، من طرف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون”.

المصير المجهول

لم تكن نهاية قصة الحموتي بمقدار روعة بدايتها وتفاصيل أحداثها، فقد التهمته غياهب المجهول في البلد نفسه الذي ناصره حينما عاد إليه في مرحلة لاحقة لغرض يخدم منفعة هذا البلد. وكان سفره إلى الجزائر آخر صفحة دوّنها تاريخ هذا الرجل الشهم الذي لم تُبقِ له البلاد التي أحبها وناصرها أثرا. فإن لم يشهد هذا الأثر على جريمة مدبرة ضده تسجل من قتلوه في لائحة التاريخ السوداء كان على الأقل أن يُحفظ وجود الحموتي حيّا على شكل قبر يليق بصنيعه.

يقول أحميان: “إن اندلاع حرب الرمال بين المغرب والجزائر سنة 1963 جعل الحموتي يعود إلى واجهة الأحداث مرة أخرى من خلال سعيه الحثيث إلى تجاوز الأزمة بين البلدين الجارين، وقد شجعته في ذلك علاقته الأخوية مع الحكام الجدد في الجزائر، فانتقل إلى العاصمة الجزائرية، ليختفي أثره بعد ذلك إلى حدود اليوم”.

ويعلق الدريوش على حدث اختفاء الحموتي قائلا: “غاب الحموتي بعد سفره مباشرة إلى الجزائر سنة 1964، ولم يسمع عنه أي خبر إلى اليوم، ومن المرجح أن يكون قد تعرض لعملية اغتيال دون معرفة أسباب ذلك؛ لأن السلطات الجزائرية لم تكشف عن حقيقة مصيره، كما أن هناك فرضيات أخرى لاختفائه في الجزائر، ويبقى هذا الحدث نقطة غامضة في تاريخ هذا المقاوم”.

قامة دون إنصاف

رغم الأدوار التاريخية الهامة والحاسمة في المقاومة التي نذر “الجندي الإفريقي” حياته لإنجازها في سبيل البلدين المغرب والجزائر إلا أنه لم ينل الاهتمام المستحق كشخصية تاريخية مؤثرة ونموذج في المقاومة والصمود؛ وهكذا ظل الجندي الإفريقي قابعا في زاوية تاريخية ضيّقة بالتهميش والإهمال، وقلما ذُكر اسمه عرضا في خضم الأحداث الكثيرة التي يحتفظ بها كناش تاريخ الريف والمغرب عامة.

يقول أحميان: “رغم هذا الدور المحوري الذي لعبه محند الخضير الحموتي لم ينل حظه في الكتابات التاريخية، وحتى عندما لقب بـ’الجندي الإفريقي’ لم ينصف في لقبه، لكون الدور الذي قام به في دعم جيش التحرير المغربي وجبهة التحرير الجزائرية يتجاوز مسألة الجندية”.

ويعلّق الخضير على واقع التهميش الذي لاحق والده بعد وفاته قائلًا: “لم تقدر الجزائر قيمته ولا خدماته الجليلة التي قدمها للمقاومة، بل على العكس من ذلك تركته يواجه مصيرا مجهولا بأن اختفى عن الأنظار دون معرفة أي شيء عن طبيعة اختفائه، وما إن كان تعرض لحادث عرضي أودى بحياته، أم تم اختطافه وتصفيته عمدا من طرف السلطات الحاكمة؛ وفي جميع الأحوال كان لازما على المسؤولين الكشف عن حقيقة مصيره”.

وحتى في بلاده المغرب، يتابع الخضير، “لم ينل تلك المكانة التي يستحقها كبطل مقاوم سخر كل ما يملكه في سبيل تحرير الوطن، ويكاد لا يذكر إلا على ألسنة الباحثين والدارسين المتخصصين في التاريخ، وعائلته تملك أرشيفا حيا كاملا عن المحطات التاريخية التي عاشها، التي تشهد على قيمة هذا الرجل”.

وجهة الباحثين

لانطوائه على أحداث تاريخية مهمّة وأرشيف ووثائق وصور وغير ذلك مما يشكل مادة دسمة للبحث العلمي أضحى منزل الحموتي وجهة مقصودة للطلبة والباحثين الذين يزورونه باستمرار للتزود بما يحتاجون إليه من كنوز المعطيات والمعلومات النادرة في ذاكرة التّاريخ.

ولا يقتصر الأمر على طلبة العلم فقط، بل حتى أبناء المجاهدين الذين عاشوا بين جدران هذا المنزل؛ أبناء المقاومين المغاربة والجزائريين، يفدون على البناية التاريخية لإشباع دوافعهم الفضولية حول معرفة المكان، أو لتنسم عبق تاريخ الآباء والأجداد الذين تركوا بين جدران هذا المنزل رائحة الجهاد والمقاومة والصمود في سبيل تحرير الوطن ونيل الاستقلال.

يقول الخضير: “يزورنا الطلبة الباحثون باستمرار، ونحن نساعدهم بمنحهم كل ما يحتاجون إليه لإنجاز بحوثهم. وقد زارنا فعلا الكثير من أبناء المجاهدين من المغاربة والجزائريين، وكنا دائما نستقبلهم بصدر رحب وكرم وحسن الضيافة ويسعدنا جدا تفقدهم لهذا المكان المنسي، فزياراتهم تعطي شحنة من الأمل والحياة للمنزل والمنطقة بأكملها”.

مؤسّسة الحموتي

في محاولة لنفض الغبار عن صفحات هذا التاريخ الحافل بالأحداث لا يدخر نجل الجندي الإفريقي الخضير محند الخضير الحموتي أي جهد في التحرك على كافة الأصعدة لإحياء تراث والده المادي وغير المادي، بتعاون ودعم من فاعلين جمعويين خلال أنشطة وندوات وملتقيات علمية.
وفي هذا الإطار أسس الخضير وبعض الفاعلين الجمعويين سنة 2022 جمعية أطلقوا عليها “مؤسّسة محند الخضير الحموتي لحفظ ذاكرة الريف وشمال إفريقيا”، لتتولى تنظيم مجموعة من الأنشطة التي تعرف بحياة وتاريخ هذا المجاهد المغربي.

يقول أحميان: “إنّ عائلة المجاهد تتوفر على رصيد هام وأرشيف غني يضم أشياء وثائق وتقارير وصورا وغيرها؛ ويهم أشكالا مختلفة من الدعم والمحطات التاريخية، إلى جانب الصور التي جمعت محند الخضير الحموتي بقادة الثورة الجزائرية. ومن شأن توظيف هذا الرصيد الوثائقي بشكل رصين أن يسهم في صون الذاكرة المشتركة المغربية والجزائرية”.

وفي تصريح لهسريس قال سفيان المقدم، نائب رئيس مؤسسة محند الخضير الحموتي لحفظ ذاكرة الريف وشمال إفريقيا: “تهدف المؤسسة إلى التعريف بتاريخ الريف وتاريخ المقاوم الحموتي خلال حقبة الاستعمار والمقاومتين المغربية والجزائرية، ومنزله وكافة الوثائق والأرشيف المتعلق به”.

وتطالب المؤسسة أيضا، يتابع المقدم، بـ”إنشاء متحف تاريخي لعرض الأرشيف الذي تحتفظ به عائلة الحموتي، وترميم وتسجيل البناية في لائحة التراث الوطني، ولائحة التراث العالمي لليونسكو”.

كما تطالب المؤسّسة الدولة الجزائرية، يختم المتحدث تصريحه لهسبريس، بـ”الكشف عن حقيقة المصير المجهول الذي تعرض له الحموتي، مع تحميلها مسؤولية الصمت المطبق إزاء هذه القضية الإنسانية طيلة هذه المدة الطويلة من الزمن، خاصة أن الحموتي كان داعما للجزائر التي كان من الأجدر أن تكرمه وتحسن ضيافته بدل تصفيته في ظروف غامضة”.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة المصرية في مستهل التعاملات
التالى بعد قرار محمود الخطيب.. زيزو يوافق على عرض ممدوح عباس الخيالي ويوقع مع الزمالك