لا يجادل عاقل في أن هناك أحكاما فقهية يعوزها الدليل المقنع والنظر المقاصدي الحضاري، مثل ما سبق أن تحدثنا عنه في مقال سابق بجريدة هسبريس -يوم 27 دجنبر 2018- في موضوع: “العلاقات الجنسية: استبطان الاستنباط” يخص الزواج بنيّة الطلاق أو ما يسمى زواج المسافر، حيث يبيّت الرجل تطليق زوجته بعد انتهاء مدة سفره من غير أن يخبرها حتى يفاجئها بتطليقها، وكنت علقتُ على هذا بقولي: “وهذا وأمثاله مما دعا كثيرين بحقّ أن يستنفروا المرأة لولوج مجال الاجتهاد لتكملة هذا المشوار؛ حتى لا ينفرد الرجل بتعليل الأحكام وتنزيلها لصالحه”.
فالنظر الاجتهادي يحتمل الخطأ والصواب على الدوام، ولا يعني هذا أن كل من هب ودب هو مؤهل للنظر الاجتهادي؛ فلعبة كرة القدم إن لم تكن متخصصا فيها فلن تُقتَرح لخوض الإقصائيات ولا لتمثيل مملكتنا المغربية في فريقها الوطني، فكيف باستنباط الأحكام التي تتعلق بمصائر الناس وحقوقهم في الحال والمآل!؟ هذا إن لم نتحدث عن صراع الحضارات وتدخّل المتحكّم -ولو بالواسطة- في خصوصياتنا مدّعيا الاجتهاد وغرضه إزالة مرجعيتنا بالمرة.
وفي نفس سياق مراجعة/مناقشة أحكام فقهية كنتُ تداركتُ في بعض الندوات على فقهائنا رحمة الله عليهم لمّا محضوا صفة “الضلال” القرآنية في جميع النساء، حيث تنبّهتُ لذكر نوعين من النساء في آية الدَّيْن رقم 282 من سورة البقرة (… أن تَضِلَّ إحداهما فتُذَكِّرَ إحداهُما الأخرى) فبصريح قول الله الخالق هناك المرأة الضّالّة/المتردّدة والمرأة المُذكِّرة، وكنتُ بيّنتُ بالأدلة المتنوعة سداد فتح باب الاجتهاد من خلال ما صدر من ظهير ملكي شريف سنة 2006 بشأن ولوج المرأة مهنة التوثيق العدلي، وعلى رأس هذه الأدلة شهادة بعض زوجات النبي على صحة وقوع أحداث، لم يكنّ في حاجة لمن يعضد شهادتهن تلك.
فكم من عبارات نص عليها الوحي الإلهي وكم من ممارسات وردت لدى الصحابة الكرام لم يتفطن فقهاؤنا لاستنباط ما يناسب من أحكام منها؛ ليفوتهم أجر الإصابة ويبقى لهم أجر الاجتهاد. كل هذا بطبيعة المقصد الإنساني الحضاري، لا بمقصد الانتقاء الانتهازي والتمرير الوصولي الإيديولوجي.
وكما هو معلوم من حدَث الإعلان عن مقترحات تعديل المدونة في أواخر دجنبر 2024 تمثلت في 139 مقترح تقدمت بها الهيئة المكلفة، تناسلت من كل حدب وصوب الانتقادات لبعضها مما له علاقة بشرعنا الإسلامي، لا يحتاج المرء لأن يكون باحثا متخصصا حتى ينتقدها، تكفيه تجربته وممارسته وما لديه مما هو معلوم بالضرورة من علاقات الأسرة بتكامل واجباتها وحقوقها وتكامل أعضائها المؤثثين لها.
لا يخفى لدى الجميع أنه تيسّر نشر المعلومات في لمح البصر بتناسل مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، وبنفس السرعة تناسلت لنقد مقترحات مدونة الأسرة الجديدة ردود الأفعال والانتقادات، وإبداع نكت ساخرة وسكيتشات فكاهية، أسهم فيها مختلف أطياف المجتمع المغربي من متخصصين وغيرهم، ومنها :
– أن لجنة للدفاع عن حقوق الرجل نشرت انتقاداتها لبعض مقترحات تعديل مدونة الأسرة.
– أنها مدونة المرأة لا مدونة الأسرة، وأن الرجل مظلوم بجميع المقاييس.
– أنها مضادة لشرع الله، وأنها مرحلة من مراحل الإجهاز على ما تبقى مما هو شرعي.
– أن منهم من نصح بتطبيق خطة B -المنسوبة للاعب الدولي “حكيمي”- إن قنّنت تلك الاقتراحات.
– أنه من خلال سكيتش فكاهي أدمن الرجال على الكحول ليتحاكوا فيما بينهم ندمهم على ما أصابهم من ذل بسبب المدونة الجديدة.
– أن حقوق المرأة وحقوق الرجل على السواء هي بيد الدولة، فلا لإحداث ثغرات بين الرجل والمرأة ولا لاصطناع الصراع بينهما.
– أن ثمة نقصا واضحا في تناول حقوق المرأة في مدونة الأسرة؛ لذا أين هي مدونة تشغيل الشباب، مدونة استرجاع الأموال المسروقة، مدونة العدالة الاجتماعية، مدونة الأخلاق والقيم المغربية، مدونة محاربة المخدرات، وغيرها من اقتراحات المجتمع المدني.
– أن المعاق ذا الإعاقته غير المانعة له من الزواج: هل اهتُمّ به في تعديل المدونة؟
– أنه تعالت أصوات نسائية تنتقد عدم التنزيل الكلي لمبادئ حقوق الإنسان/المرأة الكونية في تعديل المدونة دون تقييدها بشرع أو دين.
– أنه تعالت أصوات نسوية أخرى تنصر المقاربة الشرعية للمدونة في ظل إمارة المؤمنين.
– أنه من خلال بيانات مغايرة لبعض الحركات الإسلامية لا ينبغي اللجوء لغير القرآن والسّنّة في استلهام تعديل مدونة الأسرة، وحتى الآراء الفقهية الشاذّة لا ينبغي الأخذ بها، مِثلُها مِثل الأفكار الغريبة عن مجتمعنا.
– أن بعض الأقليات الموجودة بمملكتنا المغربية اغتنموا فرصة تعديل مدونة الأسرة ليطالبوا برفع تجريم العلاقات الرضائية وفسح المجال لنشر معتقداتهم بجانب العقيدة الإسلامية.
– أنه بحسب بعض الأكاديميين الجامعيين لا ينبغي أن ننقص من مصطلحات شرعية تؤثث مدونة الأسرة مأخوذة من قطعيّ القرآن الكريم، مثل مصطلح المتعة ذي الدلالة الإيجابية الواقعية لصالح المرأة.
– أنه لو كان حقا وصدقا الغيرة على حقوق المرأة لتمّ انتقاد منهج الإرث لدى المرأة المغربية اليهودية من باب أولى.
وبعد جردي لمجمل ما ورد من انتقادات في وسائل التواصل الاجتماعي، فمن وجهة نظري أنه لا يختلف اثنان في استحالة الإلمام بكل ما يجدّ من مشاكل وقضايا بين أفراد الأسرة، دليله الاجتهاد الدائم المتواصل على مرّ الأزمنة والعصور بهذا الشأن وهو ما يزال قائما، لا يستطيع أحد إغلاقه بعدما فتحه الرسول الكريم، ودليله أيضا ما فَوَّضَ بشأنه العلماءُ لصاحب الجلالة النظر فيما أبدوه من اقتراحات تعديلية باعتبار جلالته وليَّ الأمر في مقام الإمامة العظمى، الأهل لتقدير المصلحة مقصد الدين الأسمى للأفراد والجماعات، وهذا من خصوصيات حضارتنا المغربية التي لا يمكن إلغاؤها بأي ضرب من الإلغاء.
وإن الجمع التوفيقي بين حفظ ثوابتنا المغربية ممثلةً في الدين وإمارة المؤمنين، وبين مواكبة الاجتهاد لكرامة الأسرة المغربية بالقيم الكونية الحضارية بديمقراطية المؤسسة البرلمانية لهو منهج راق يسعى لإسعاد الإنسانية في عالم اليوم.
وجدير بمقامنا هنا أن نذكّر بمنطلق أمير المؤمنين الراسخ “لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين أن أُحِلّ ما حرّم الله أو أحرّم ما أحلّه” المؤجرئ لقول الله جل في علاه في سورة المائدة 49: (وَأَن احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، فلا يتصور بتاتا أن ننسلخ من ذاتنا بأي دعوى من الدعاوى ولو وصفت بالانفتاح أو الكونية؛ إذ لا يقبل الآخر من غيرنا أن ينسلخ من ذاته فيصير شبيها أو مطابقا لنا بدعوى أنه أسهم في الانفتاح والكونية مثلا. فالانفتاح هو مدّ الجسور فيما بين الشعوب والحضارات تعاونا على المشترك الإنساني بيننا دون إلغاء لخصوصيات الآخر.
وبما أن مسيرة التطوير والتجديد التي تقتضيها مستجدات العلاقات البشرية والتي أصبحت يضيق بها بلد واحد في ظل أن العالم اليوم تطور ليصير قرية واحدة، ومهما حاول الفكر البشري فهو يظل قاصرا أمام هذا الزخم المتواصل من القضايا والأحداث، فقد عنّت لي ملاحظات بشأن بعض ما تم اقتراحه من تعديل وتطوير أركزها في الآتي:
– في قضية استثناء بيت الزوجية وعدم اعتباره من تركة الزوج الهالك: أرى أن هذا تغيير لحقيقة واقعية في نظام المِلْكِية التي أقرتها قوانين السماء والأرض، وينطلق من أن جميع الزوجات معوزات، فيغيّب الزوجات الموظفات ومنهن من تتقاضى أضعاف ما يتقاضاه الزوج، بل نعرف نماذج أن الزوجة موظفة والزوج بدون عمل، أو أن الزوجة غير العاملة أصبحت من الأثرياء بفضل ما ورثته وزوجها أصبح مفصولا عن العمل بدون راتب يذكر، وهكذا.
ثم إن كان المقصد إنسانيا رحيما يضمن استقرارا للزوجة ذات الأولاد بعد وفاة أو طلاق زوجها، أليست الأم مثلا أو بنت الزوج من امرأة سابقة أو أخته اللائي يسكنّ معه، ألسن نساء يحتجن للاستقرار!؟ وهذا ما درج عليه مجتمعنا المغربي من تلقائية التكافل بين أفراد الأسرة الواحدة.
ألا يؤدي هذا لخلق بغضاء وعداوة بين أهل الزوج والزوجة التي سيطرت على بيته الذي لا يملك سواه مثلا حارمة إياهم من نصيبهم في الميراث مع العلم أن أغلب البيوت فقيرة، وأن أغلب من يملك منزلا صغيرا فقط قد قضى غالب عمره في أداء أقساطه!؟ ألن يكون سببا من أسباب الجرائم التي تحدث بين أفراد العائلة الواحدة؟
ألا يدفع هذا الاقتر احُ الزوجَ لنهج حيلة ما -وما أكثر الحيل- للإبقاء على استفادة أهله من تركته ضدّاً على المرأة زوجته، خصوصا وأن علاقة الشح والحساب تُفقِد الحياة ثقتها وطمأنينتها وكرمها!؟
وارتباطا بما سبق، هل لدينا إحصاء بدرجات العوز وأنواع الهشاشة في مجتمعنا حتى نبني عليه مقترحات إنقاذ الناس والرفع من مستواهم المعيشي وعلى رأسهم المرأة المغربية!؟
– قضية احتساب عمل المرأة ببيتها إسهاما في تنمية ثروة الزوج:
إن لم تُضبَط هذه القضية بتوثيق اتفاق الزوجين، تنجلي للفكر أمور واقعية يستغربها، منها: لماذا لا يُحتسَب ما يخدم به الزوج بيته تنمية لثروة الزوجة، ومن ثَمَّ ما الذي سنحدده لصالحه حالة طلاقه؟ لماذا يُحتسَب عملها البيتي تنمية لثروة الزوج وهي لا تشتري ما تطبخه مثلا؟ بل تأكل منه كما يأكل الزوج سواء بسواء؟ أليس هذا من شأنه أن يزيد من نفور الشباب ليقتصروا على علاقة تشييئية يقضي بها مصلحته الآنية من غير التزام بحقوق وواجبات الزوجية!؟ فلِم يتحمل الشاب عبء الحياة بكاملها وبإمكانه إشباع وطره من غير تلك التكاليف الماراطونية!؟
أليس في قناعة الشاب ربح آني مستعجل على المدى القصير؟ وبحسب نظرية المؤامرة فيه ربح لا نظير له على المدى البعيد؟
– قضية حق الأم المطلقة في حضانة أطفالها حتى بعد زواجها:
يظهر في أول وهلة أن المقترح موضوعي ومنصف باعتبار طبيعة عاطفة الأمومة الجياشة التي لا تستقيم إلا وأطفالها معها، لكن بتعميق النظر ومن واقع حياة البشر ونزوعاته النفسية الأنانية في بقاع المعمور، يتبين أن غياب الأب لا يعوّضه أحد بتاتا إلا ما استُثنِي طبعا؛ فلكل قاعدة استثناء.
نعلم جيدا ظاهرة زنا المحارم التي أصابت جميع المجتمعات، هذا داخل الأسرة الطبيعية البسيطة غير المركبة من أم طبيعية وزوج أمّ مثلا، وما أخبار تنقية الرحم السّرّيّة وقضايا المحاكم إلا خير دليل على زنا المحارم هذا. فإذا كانت عاطفة الأم وحرصها على أطفالها لا يمنعان من تجاوزات التعدي الجنسي عليهم، فمن باب أولى أننا سنفتح الباب على مصراعيه لمرضى النفوس من الأزواج الذين يستغلون بنات زوجاتهم للتنويع بهن مستغلين جهلهن وفقرهن وعدم تجربتهن ووو، فكأنها قاعدة: حيثما وجد أطفال بعيدون عن محضن والديهم يتم التعدي عليهم جنسيا، وهذا مثل مراكز إيواء الأطفال لتعليمهم وإعادة إدماجهم في الغرب كما في باقي المعمور، ونفس الأمر يتكرر حالة غياب الأب المطلّق عن حضانة أطفاله، أليس بالإمكان والحالة هذه أن نرحم أطفالنا -عند زواج أمهم- بحضانة جداتهم لهم مثلا أو ما يقدّره القاضي بحسب ما هو متاح يضمن أمن الأطفال ووقايتهم!؟
هذا وفي في دراسة ميدانية للمرصد الوطني للتنمية البشرية بشراكة مع برناج الأمم المتحدة الإنمائي حيث عزوف الشباب المغربي عن الزواج انتقل من 42% سنة 2011 إلى 70% سنة 2019:
هل وصولنا إلى هذه الحالة بريء من نظرية المؤامرة؟ خصوصا وأن وزير العدل أكد في حوار له سابق أن العالم ماض في خطة الشذوذ الجنسي بقوله: “يبدو أنه من سخرية الأقدار أن هؤلاء المثليين أصبحوا قوة سياسية واقتصادية ضاربة، تتحكم في الأمور … وتقرر في الأمور السياسية وفي الأمور الاقتصادية على المستوى العالمي… توظف الآليات لكي تفرض علينا الآن اختيارات تهمهم… ونحن في الحقيقة عاجزون عن مواجهتهم؛ فهم أقوياء علينا بشكل كثير… نحن ندافعهم…نحن نناضل ونعمل ليل نهار من أجل الحفاظ على قناعتنا… عندي قناعة مطلقة أن هذه مجرد ظاهرة…”. وقد أثمر هذا أن وزيرا آخر كرّم المغني طوطو، وأن من يدعو للتعددية الجنسية يُرقّى لينظّر للتعليم العالي!
أليس تهييء هذا السياق هو الأرضية الأهل للحد من التكاثر والتناسل، وأن فئة قليلة محظوظة هي من تستحق التنعم بالحياة؛ فلا مجال لتناكحوا وتناسلوا وتكاثروا بين الذكور والإناث!؟ إذ ثقافة “زوج + زوجة + أولاد” أوشكت أن تصير في الغرب ثقافة أرشيف ومتاحف/خبر كان، ولنصير نحن كونيين منفتحين علينا أن نكون مثلهم. هذا مع تسجيل تناقض هذا الغرب في دعواته المتتالية بفتح مناصب شغل لشبابنا حتى يلتحقوا بشركاتهم ومعاملهم ومصانعهم ومختلف مؤسساتهم.
وختاما فتشييء العلاقات الزوجية منه الإيجابي الحضاري كما هو في تراثنا الواقعي الخالد: الصّداق في مقابل البُضع، والهدايا في مقابل تلطيف الحياة وتبادل المنافع عن طيب خاطر مثلا. ومنه السلبي الأناني المنبني على توظيف علاقة زوجية للاستحواذ والإجهاز على حق الغير الثابت بدعوى العلاقة الزوجية.
وكل من يروم تعديلا أو تطويرا لمنظومة اجتماعية ما ولا يستحضر الكونية والعالمية التي نحن جزء منها، وكذا سياق المجتمعات في عالم اليوم وطرق تدبير اقتصادها وسياستها، فإنه يسيء ويهدم من حيث يتوهم أنه يُحسِن ويبني؛ ومن بين ما يحدد السياق العام لظرفية تعديل مدونة الأسرة هو تصاعد نسبة العزوف عن الزواج ببلدنا مع انخفاص نسبة الخصوبة وارتفاع نسبة البطالة لدى الشباب اللافت للنظر!!!.