ما زالت معالم “العرض الأوّلي” حول “السيناريوهات المتوقعة” في ملف إصلاح أنظمة التقاعد في المغرب، الملتزَم بتقديمه خلال شهر يناير الجاري من طرف حكومة عزيز أخنوش، لم تَظهَر بعد، فيما كان آخر تأكيد حكومي، على لسان وزيرة الاقتصاد والمالية نادية فتاح، أواخر السنة المنقضية، يفيد بـ”الالتزام الحكومي بضرورة مباشر إصلاح أنظمة التقاعد والعمل على تحسين حكامتها”.
جاء ذلك خلال مرور برلماني لها بمجلس النواب، متفاعلة مع سؤال للفريق الاشتراكي- المعارضة الاتحادية، الذي شدد على “استعجالية إصلاح التقاعد ومواكبته دينامية التغيرات الديموغرافية والسكانية” الأخيرة بالمملكة، مبرزة أن “أسس الإصلاح، كما وردت في الجولات السابقة للحوار الاجتماعي، تبقى شاملة للقطبين العام والخاص، مع العمل على تحسين الحكامة”.
وتعهدت المسؤولة الحكومية بـ”التزام واضح بالتقدم في إصلاح أنظمة التقاعد بداية من العرض الأولي في شهر يناير 2025″، مقرة في السياق ذاته بأن إصلاح أنظمة وصناديق التقاعد “تأخر، فعلا، ثلاثة أشهر” بعدما كان مرتقبا تقديمه نهاية 2024.
“ترقب نقابي مستمر”
ولفتت وزيرة المالية إلى أن “الحوار الاجتماعي، الذي شمل زيادة في الأجور، مكّنَ من كسب سنتين أو ثلاث سنوات في ملف التقاعد”، مردفة أن “الحكومة كانت ضخت سنة 2022 ملياريْ درهم في الصندوق المغربي للتقاعد (CMR) ، وهي ملتزمة بمسؤولية إصلاح أنظمة التقاعد”. فيما لم يؤكد مسؤول نقابي بأكبر المركزيات النقابية في المغرب (UMT) “التوصل، إلى حدود اليوم، بعرض الحكومة الأولي أو تصورها المحيّن لإصلاح أنظمة التقاعد”، رافضا الإفصاح عن مزيد من المعطيات لجريدة هسبريس.
تبعاً لذلك يبقى الترقب والانتظار “سيّد الموقف”، وهو ما أفاد به مصدر مطلع من المكتب التنفيذي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، مؤكدا أن نقابته “لم تتوصل بأي عرض أو خطوط عريضة للإصلاح المرتقب إلى حدود اليوم (10 يناير)”.
واستحضر المصدر النقابي، العضو في الغرفة الثانية للبرلمان، في حديثه للجريدة، “عدمَ انعقاد أشغال اللجنة المركزية لإصلاح أنظمة التقاعد، التي تندرج في إطار تنفيذ مخرجات الاتفاق الاجتماعي والميثاق الوطني للحوار الاجتماعي المُوقّعين في 30 أبريل 2022 ما بين الحكومة والمركزيات النقابية والمنظمات والجمعيات المهنية للمشغلين”.
ومنذ بداية ولايتها، التي ستنتهي سنة 2026، والحكومة تؤكد أنها “ملتزمة بمباشرة إصلاح أنظمة التقاعد والتقدم في هذا الورش، وعدم التهرب من هذه المسؤولية”، محددة شهر يناير 2025 موعدا من أجل تقديم “العرض الأولي”.
“إصلاح بارامتري”
تعليقا على الموضوع، قال محمد عادل إيشو، خبير في شؤون المالية العمومية وأستاذ جامعي مختص في الاقتصاد القياسي، إن الإصلاح الحالي لأنظمة التقاعد في المغرب، كما هو مطبق منذ 2016، يُصنف كـ”إصلاح بارامتري” (Réforme paramétrique)، موضحا أنه “يُركز على تعديل المعايير الأساسية مثل سن التقاعد، نسبة المساهمة، وعاء تصفية المعاشات والنسبة السنوية للأقساط”.
وأبرز إيشو، في إفادات تحليلية لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “هذا النهج البارامتري يعالج العجز المالي للصناديق التقاعدية بشكل جزئي، لكنه لا يتطرق إلى الجذور البنيوية للمشكلة، مما يجعل الحلول المقترحة قصيرة المدى وغير قادرة على تحقيق استدامة شاملة”.
وأشار إلى أن “من بين التدابير المعتمدة في هذا الإطار رفع سن التقاعد تدريجيًا إلى 63 سنة بمعدل 6 أشهر سنويًا ابتداءً من يناير 2017″، و”زيادة نسبة المساهمات من 20 إلى 28 بالمائة على مدى 4 سنوات”.
كما أورد أن الحديث كان جاريا عن “توسيع وعاء تصفية المعاشات ليشمل متوسط الأجر خلال آخر 8 سنوات من الخدمة الفعلية، وتدابير تخفيض معدل الأقساط السنوية من 2.5 إلى 2 بالمائة بالنسبة للحقوق المستقبلية، ومن 2 إلى 1.5 بالمائة بالنسبة للتقاعد المبكر، فضلا عن رفع الحد الأدنى للمعاشات تدريجيًا من 1000 إلى 1500 درهم بحلول 2018”.
وتابع قائلا: “رغم أهمية هذه التدابير في تخفيف الضغط المالي على المدى القصير، فهي لم تُحقق الهدف الرئيسي المتمثل في إعادة التوازن الشامل للنظام. ويظل التحدي الأكبر هو استدامة الأنظمة في ظل التغيرات الديموغرافية، حيث يتزايد عدد المتقاعدين مقابل انخفاض عدد المساهمين النشطين”.
ووفق ما شرحه الخبير المالي لهسبريس، فإن “الإصلاح البنيوي، المركّز على إعادة تصميم النظام بأكمله، يبدو الخيار الأكثر استدامة”، مردفا “يتمثل هذا الإصلاح في الانتقال إلى نظام القطبين (قطب عام وقطب خاص)، مع توحيد المعايير وتوسيع قاعدة المساهمين لتشمل فئات غير الأجراء. وعلى المدى المتوسط قد يسهم هذا الحل في تقليل التفاوت الاجتماعي وتعزيز العدالة، إلا أنه يتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية الإدارية والقانونية لضمان التنفيذ الناجح”.
ثلاثة سيناريوهات
الإصلاح المقترح يأخذ بعين الاعتبار “ثلاثة سيناريوهات محتملة” تعكس الوضع الحالي لأنظمة التقاعد و”رؤية المستقبل”.
السيناريو الأول يقوم على “تنفيذ نظام القطبين”، مع “توحيد أنظمة التقاعد في قطبين رئيسيين: الأول يخص القطاع العام، والثاني يهم القطاع الخاص”. هذا السيناريو، وفق المتحدث، يهدف إلى “توسيع قاعدة المساهمين، خاصة من فئة غير الأجراء، الذين يقدر عددهم بالآلاف ولا يستفيدون حاليًا من أي نظام تقاعدي. وإدماج هذه الفئة تدريجيًا يمكن أن يساهم في تحقيق توازن مالي واستدامة طويلة الأجل للصناديق. وعلى المدى البعيد قد يوفر هذا السيناريو عدالة اجتماعية أوسع، لكن التحدي يكمن في جاهزية البنية التحتية الإدارية والتنظيمية لاستيعاب هذا التحول”.
أما “السيناريو الثاني فيعتمد على تعميق الإصلاحات المعيارية التي انطلقت في 2016 مثل رفع سن التقاعد تدريجيًا إلى 63 عامًا، وزيادة نسبة المساهمات إلى 28 بالمائة”، يضيف الخبير ذاته، مشيرا إلى أن “هذه التدابير أثبتت جدواها الجزئية في تخفيف الضغط المالي على الصناديق، لكنها لم تكن كافية لتحقيق التوازن الكامل. هذا السيناريو قد يكون أكثر قبولًا اجتماعيًا على المدى القصير، لكنه يظل غير مستدام إذا استمرت التغيرات الديموغرافية الحالية مثل ارتفاع أعداد المتقاعدين مقارنة بالعاملين النشطين”.
السيناريو الثالث، “وهو الأكثر طموحًا”، حسب أستاذ الاقتصاد، “يتمثل في الانتقال إلى نظام تقاعد موحّد متعدد الطبقات”. وتابع شارحا “هذا النظام سيشمل طبقة أساسية إلزامية تغطي جميع العاملين، وطبقات اختيارية تتيح للمساهمين تعزيز معاشاتهم بناءً على قدرتهم. على المدى المتوسط يمكن لهذا السيناريو توسيع شبكة الحماية الاجتماعية وتحفيز المزيد من الفئات على الانخراط في النظام. ومع ذلك، فإن تكاليف التنفيذ الأولية قد تكون مرتفعة، مع الحاجة إلى استثمارات كبيرة في التكنولوجيا والبنية التحتية الإدارية.
وختم قائلا إن “الأرقام الحالية تشير إلى أن العجز المالي للصناديق بات يهدد استدامتها”، مستحضرا إشارة دالّة من المجلس الأعلى للحسابات على “قرب نفاد احتياطات بعض الأنظمة في آجال متفاوتة”. في المقابل يمكن لـ”توسيع قاعدة المساهمين وزيادة معدل التعويض أن يشكل ركيزة أساسية لحل هذه الأزمة. على سبيل المثال، إدماج غير الأجراء تدريجيًا، مع ضمان معدل تعويض معقول للدخل يمكن أن يساعد في تخفيف الضغط المالي وضمان معاش كريم للمستفيدين”، يضيف المتحدث.