ما المقصود بالإنفُوقراطية؟
في كتابه L’infocratie numérique et crise de la démocratie ، الإنفُوقراطية الرقمية وأزمة الديمقراطية يقدم Byung-Chul Han “بينغ-تشول هان” تحليلًا لمستقبل الديمقراطية في ظل الانتشار الرقمي المتسارع حين يحوّل المعلومات إلى سلعة تتحكم في مصائر الأفراد والمجتمعات. يصف “هان” العصر الراهن بأنه عصر “الإنفُوقراطية”، بحيث لم تعد السلطة مقتصرة على الأنظمة السياسية التقليدية، بل أصبحت تتحكم فيها البيانات التي تُجمع وتُحلل في خفاء، فتُوجّه الإرادات وتعمل على صياغة الأيديولوجيات. في هذا السياق، يفقد الفرد استقلاله السّياسي والفكري، ليصبح جزءًا من دوامة لا متناهية من تدفق معلوماتي يحدد اختياراته وسلوكياته. ببلاغة نقدية لاذعة، يكشف “هان” عن الأزمة التي يعاني منها النظام الديمقراطي في مواجهة أنظمة رقمية تُمكّن الشركات الكبرى من فرض رقابة غير مرئية على الرأي العام، وتُفضي إلى نوع من الاستلاب الفكري، بعيدا عما توحي به من حرية في الاختيار.
الإنفُوقراطية مصطلح نَحتَهُ الفيلسوف الكوري الجنوبي المقيم بألمانيا بينغ-تشول هان، ويقصد به نظامًا سياسيًا واجتماعيًا يعتمد على التحكم وإدارة المعلومات من أجل تنظيم السّلطة. هكذا، تصبح المعلومات قوة تحدد مجرى الأحداث السياسية والاجتماعية، ويؤثر تدفقها المستمر على اختيارات الأفراد والجماعات، بما يتم جمعه من بيانات وتحليلها لتستعمل في تحفيز سلوكيات الأفراد ضمن سياق تحكمه الخوارزميات وأنظمة الذكاء الاصطناعي.
تُعزز الإنفُوقراطية حالة الاستلاب لدى الفرد بحيث يفقد القدرة على التفاعل بحرية مع المعلومات أو على تحدّيها، ليقتصر دوره على استهلاك ما يتم تقديمه له من دون أي تأثير حقيقي في تشكيل أو توجيه المحتوى. تتحول المشاركة إلى فعل صوري، ويُصبح الفرد أسيرًا لنظام رقمي يعيد تشكيل آرائه وميوله وفقًا لمصالح القوى المسيطرة على المنصات.
لا حاجة للتذكير أن ظهور الإنفُوقراطية يرتبط بتطور التقنيات الرقمية وانتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. ومع دخول هذه التقنيات إلى مجالات السياسة والإعلام والاقتصاد، تطور النظام الرأسمالي المعتمد على المعرفة والمعلومات، وأصبحت الشركات الكبرى مثل جوجل وفيسبوك وأمازون تمتلك معلومات ضخمة تؤثر على خيارات الأفراد والمجتمعات. لذلك، يركز هذا النظام الرقمي الجديد على تحليل تلك البيانات، ويمثل نقطة تحوّل في تاريخ السلطة السياسية أمام تراجع الممارسات الديمقراطية التقليدية لصالح أنظمة إدارة المعلومات التي تسيطر على فهمنا للعالم وتوجيه اختياراتنا.
ينتقد “هان” منطق هذه الأنظمة التي يُطلب فيها من الأفراد التعامل مع تدفق مستمر للمعلومات دون أن يتاح لهم التحكم في هذا التدفق أو القدرة على التأثير فيه. على عكس الديمقراطية التقليدية، التي يُفترض أن يكون فيها المواطنون فاعلين وقادرين على المشاركة الفعّالة في تشكيل الرأي العام، تُسهم الإنفُوقراطية في تحويل هذه المشاركة إلى مجرد تفاعل سطحي. بذلك، تؤدي الإنفُوقراطية إلى تلاعب بالرأي العام، إذ تخلق أنظمة رقابة محكومة بعدم الشفافية، ما يمنع من تحقيق مشاركة ديمقراطية حقيقية أو تعبير عن إرادة حرة وواعية.
مفارقة الحرية في العصر الرقمي
تطرح مفارقة الحرية في العصر الرقمي إشكالية فلسفية وفكرية معقدة، تتجلى في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي تبدو ظاهريًا بوصفها فضاء يتيح حرية فردية غير مسبوقة. بيد أن هذه الحرية المزعومة تُنتج في الواقع أشكالًا جديدة من الضغط الاجتماعي، حيث يُخيّل للفرد أنه مستقل في خياراته وقراراته، بينما هو خاضع لمنظومات رقمية تُوجه سلوكه وتُقيّد وعيه. إن وهم الاستقلالية هذا يُخفي وراءه استلابًا عميقًا، يُفرغ مفهوم الحرية من جوهره الحقيقي. في هذا السياق، تظهر العلاقة الإشكالية بين مجتمع المعلومات وما يُفترض أن يكون “حكامة ليبرالية”، حين يتحول الفرد إلى كائن مزدوج: يبدو باعتباره فاعلا يتمتع بالحرية، لكن الواقع يكشف أنه ضحية لاستغلال خفيّ يتسلّل من خلال خوارزميات مُعقّدة تُعيد تشْكيل إرادته بما يتماشى مع مصالح قوى غير مرئية.
نقدُ الفردانية الرَّقمية
ينطلق نقد الفردانية الرقمية من تفكيك الوهم الذي تخلقه التقنيات الحديثة حول استقلالية الفرد وحريته المطلقة في الفضاء الرقمي. فعلى الرغم من أن هذه التقنيات، وفي مقدمتها وسائل التواصل الاجتماعي، والتي توحي بمنح الفرد حرية غير مسبوقة للتعبير عن آرائه، إلا أنها كما أشرت سابقا تُعيد تشكيل هويته وفقًا لمنطق الرأسمالية الرقمية، ليتحول إلى مجرد “وحدة بيانات”، تُراقب سلوكياته وتُحلل رغباته لتوجيهها بما يخدم مصالح القوى الاقتصادية الكبرى، الأمر الذي يُفقده عمق علاقاته الاجتماعية ويجعله عالقًا في حبائل عزلة افتراضية تُعيد إنتاجه باعتباره فاعلا مستهلكا لا ذاتا حرة ومستقلة.
بهذا المعنى يعزز تصوّر الفردانية الرقمية منطق الرأسمالية القائمة على المراقبة، ويتمّ إيهام الأفراد بأنهم يمارسون استقلاليتهم وحريتهم داخل الفضاء الرقمي، بينما يتم إخضاعهم لنظام محكم من الرّصد والتحليل. وبذلك، تُحوّل هذه التقنيات كل تفاعل أو اختيار إلى بيانات قابلة للاستثمار. بهذا المعنى، تصبح الفردانية الرقمية واجهة مُزيفة تُخفي هيمنة شاملة تُعيد إنتاج السيطرة عبر مراقبة دقيقة تُفرغ الحرية من مضمونها، وتحوّل المرءَ إلى أداة استهلاكية محاصرة بسياج منظومة رأسمالية تُعيد تشكيل الرغبات والاختيارات.
استعادةُ الديموقراطية
أمام هذا الوضع، هل ثمة أمل لاستعادة الديموقراطية بعيدا عن سطحية التفاعلات الرقمية؟ نعم بالإمكان ذلك من خلال إعادة تأسيس المجال العام على قواعد تُعيد الاعتبار للنقاش العقلاني والوعي النقدي، بعيدًا عن التلاعب الذي تمارسه الخوارزميات وأنظمة المراقبة الرقمية. يتطلب الأمر استعادة قيمة اللقاءات الإنسانية المباشرة باعتبارها فضاء للتفاعل السياسي الحقيقي، تمكن الفرد من التعبير عن رأيه وتبادل الأفكار بمعزل عن التّحكّم الرقمي التي يُحوّل النقاش إلى صراعات سطحية ومُختزلة؛ وهذا ما يمكّن من تعزيز دور التربية على المواطنة النقدية التي تُحصّن الأفراد ضد الاستلاب الرقمي وتُمكّنهم من التمييز بين المشاركة الفعّالة والتمثيل المزيف للحرية.
لا تتحقق الديمقراطية من خلال الإعجاب أو المشاركة الرقمية العابرة، بل عبر إحياء المجال العام باعتباره فضاء للنقاش الحر والمسؤول. في هذا الفضاء، يعبر الأفراد عن وعيهم بقضاياهم وحقوقهم، ويقومون بدورهم الفاعل في بناء مجتمع يقوم على الحوار المتبادل والالتزام المشترك، بعيدًا عن التأثيرات السطحية التي تفرضها الأنظمة الرقمية.
أزمة الديموقراطية في العصر الرقمي
إن القول بأزمة الديمقراطيات في العصر الرقمي يُحيل إلى تحوّل أضحى جليّا مسّ جوهر الممارسة الديمقراطية، التي كانت تقوم على التفاعل المباشر بين الأفراد داخل مجال عام متحرر من القيود التقنية. ما من شكّ في أن انتشار الرقمنة أدّى إلى تفتيت العلاقات، وحوّل النقاش السياسي إلى سلسلة من التفاعلات الافتراضية التي تفتقر إلى العمق والتجرد، ما أفقد الديمقراطية معناها الأساسي باعتبارها فضاء لصياغة إرادة جماعية واعية. فالحرية، التي كانت تُمارس ضمن إطار عقلاني يحترم التعددية والاختلاف، باتت تُختزل في تعبيرات مُتفرقة وذات طابع استهلاكي، تهيمن عليه الرغبات الفردية والميول العابرة على حساب التفكير الجمعي والنقاش المسؤول.
في هذا السياق، تكشف الفلسفة السياسية المعاصرة عن أزمة الإرادة العامة التي أصبحت خاضعة بشكل غير مباشر لتوجيه خوارزميات المنصات الرقمية حين تُفضي إلى تقليص القدرة على التفكير النقدي وتغلق الأفق أمام إنتاج مواقف فكرية حقيقية. هكذا، تتحول الديمقراطية إلى مجرد “صدى رقمي” يعيد إنتاج القناعات الفردية، بدلاً من أن يُغني النقاش العام ويُعزز التفاعل الجماعي اللازم لكل ممارسة ديموقراطية.
على أن المعضلة الفلسفية الأبرز، في تقديري، تتمثل في تلاشي فكرة “الآخر” بوصفه مكوّنا أساسيا للفعل الديمقراطي. فالنقاش الرقمي، على عكس اللقاءات السياسية المباشرة، يُضعف المواجهة الفكرية. وبذلك، تتلاشى شروط بناء المعنى السياسي المشترك وما يستدعيه من تفاعل مع تعددية الرأي والانتساب. من هنا، تكشف هذه المعضلة عن خلل عميق في العلاقة بين الإنسان والتقنية، حيث تتحوّل الديمقراطية إلى ممارسة شكلية محكومة بأنظمة رقمية تُوجّه السلوك وتُعيد تشكيل المجال العام. وبهذا، يتم إفراغ الديمقراطية من جوهرها الحقيقي، الذي يرتكز على الوعي النقدي، والمشاركة الفعّالة، وبناء مستقبل مشترك يُجسّد الإرادة الإنسانية الحرّة في أبعادها الفكرية والأخلاقية.
هكذا، تتحول الديمقراطية في ظل الإنفُوقراطية الرقمية إلى مجرد واجهة لتمثيل سياسي فارغ، يختزل التفاعل الديمقراطي في نقاشات سطحية على منصات رقمية، تتسم بالاختزال والتمثيل الزائف. ما كان يُفترض أن يكون نقاشًا سياسيًا غنيًا، قائمًا على التحليل والتفكير النقدي، أصبح مجرد استهلاك رقمي سريع، مما يؤدي إلى تفكيك المشاركة السياسية الفعّالة، وبالتالي تفتّت مفهوم الديمقراطية نفسها.
هل أصبحتْ الديمقراطية في ظل الإنفُوقراطية الرقمية مجرّد واجهة تخفي الواقع المتآكل للمشاركة السياسية الفعّالة؟
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.