مأزقٌ وجودي غير مسبوق يعيشه “الحل الصهيوني” لـ”المسألة اليهودية” التي نشأت في “الحوض الحضاري الأوروبي المسيحي” قبل حوالي عشرين قرنا، وفق أحدث كتب الباحث في العلوم السياسية والوزير السابق الحبيب الشوباني؛ لأن “عقيدة القوة” التي “قامت عليها لضمان أمن الكيان الصهيوني، ورفاهيته، وتفوقه، أصبحت وجها لوجه منذ 7 أكتوبر 2023 مع شعب يستند إلى ‘قوة العقيدة’ المسنودة بدعم شعوب الحوض الحضاري الإسلامي، وبتضامن ملايين البشر من مختلف الشعوب والديانات والثقافات عبر العالم”.
في هذا الكتاب الجديد الصادر عن “منشورات الخيام” بعنوان “(المسألة اليهودية) في عصر الطوفان: في بناء سردية المأزق الوجودي لـ(الحل الصهيوني للمسألة اليهودية)”، يخلص المؤلف إلى أن شعوب الحوض الحضاري الإسلامي، وملايين البشر من المتضامنين من مختلف الخلفيات الدينية والثقافية، “مصممون مع الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة للاحتلال على تحقيق التحرير المزدوج: تحرير فلسطين والفلسطينيين من آخر احتلال استيطاني عنصري، وتحرير اليهود واليهودية من أسر الأيديولوجية الصهيونية”.
وفي تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية قال الحبيب الشوباني إن بحثه الأكاديمي الجديد “ينطلق من واقع حرب الإبادة الجارية حاليا في فلسطين، ليعيد طرح السؤال الجوهري الذي يتعلق بأصل نشأة ووجود دولة ‘إسرائيل’ في هذه المنطقة من العالم، التي تشكل قلب الحوض الحضاري الإسلامي؛ فالمحرقة الفلسطينية اليوم ذات بعدين عالميين: أحدهما ظاهر ويحظى بالتفاعل الشعبي والإنساني في زمن الثورة الرقمية، والآخر ضامر، لا ينال حظه من الكشف والمداولة الإعلامية، خاصة في دول الغرب”.
أما البعد الظاهر فهو “معاناة الشعب الفلسطيني من الاضطهاد والإبادة”؛ لأن الكيان الصهيوني نشأ كحل أوروبي غربي مسيحي لمسلسل من الحلول الفاشلة لـ”المسألة اليهودية” منذ حوالي عشرين قرنا. وقد تُدُووِل هذا المصطلح في القرن التاسع عشر بألمانيا في الجدل الفكري الذي اندلع بين الفيلسوفين “برونو باور” و”كارل ماركس”، ضمن جهود فكرية للبحث عن حل لمعضلة التعايش المتعذر والمستحيل بين المسيحيين واليهود في دولة ألمانية المسيحية. لكن الحلّ النازي للمسألة اليهودية إبان الحرب العالمية الثانية، والمعروف بـ”الحل النهائي؛ سرّع وتيرة تنفيذ “الحل الصهيوني” كما نظّر له الروسي ليون بنسكير في كراسته الشهيرة التي ألفها سنة 1882 بعنوان “الانعتاق الذاتي: تحذير يهودي روسي لإخوانه”، بعد مذابح روسيا القيصرية سنة 1881، عقب اتهام اليهود بالشراكة في اغتيال القيصر؛ ثم النمساوي تيودور هرتزل في كتابه الذي ألفه سنه 1895 بعنوان “دولة اليهود: محاولة لإيجاد حل حديث للمسألة اليهودية”، إثر تأثره بمناخ محاكمة الضابط اليهودي ألفريد دريفوس في فرنسا، وهو حل يقضي بإنشاء وطن قومي لليهود بعيدا عن أوروبا.
هكذا “وقع الاختيار – بعد رفض مقترحات الأرجنتين ومدغشقر ودول أخرى – على زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، بناء على سردية صهيونية صيغت من أساطير دينية وسياسية، وتقاطعت فيها مصالح الغرب الإمبريالي، بزعامة بريطانيا ساعتئذ، مع مصالح الحركة الصهيونية، لتهجير اليهود من أوروبا نأيا بهم عن الاضطهاد الذي عانوا منه طويلا لاعتبارات دينية، ولاحقا عرقية بعد تراجع تأثير الدين في المجتمعات الأوروبية”.
واستشهد الشوباني بـ”الفيلسوف الفرنسي اليهودي إدغار موران” الذي “عبر عن هذا الوضع بنزاهة علمية كبيرة في كتابه (العالم المعاصر والمسألة اليهودية) بقوله: ‘من الضروري النظر في المأساة التي سببتها النازية، وولدت منها دولة ‘إسرائيل’، ويأخذ منها مفهوم ‘اليهودي’ معنى جديدا. إنه لمن المؤسف أن زرع إسرائيل في الأراضي الإسلامية قد خلق مأساة جديدة ذات أبعاد عالمية”. ثم علق الباحث المغربي بقوله: “إن إدغار موران يتحدث هنا عن المفهوم الجديد لليهودي الذي كان أمس ضحية اضطهاد الإنسان الأوروبي، لكنه صار اليوم مضطهدا للإنسان الفلسطيني ببشاعة أكبر!”.
وسجل الشوباني في هذا السياق أن “المسألة اليهودية لم تنشأ تاريخيا في الحوض الحضاري الإسلامي، لأن قيم الإسلام ترفض الاضطهاد على أساس الدين، بل تجرمه على أي أساس كان، لكنها نشأت في أوروبا بسبب الكراهية العقائدية التي يكنها المسيحيون لليهود لمسؤوليتهم التاريخية عن ‘جريمة قتل المسيح’، أي قتل الإله! ثم بسبب أن اليهود ينظرون باستعلاء (عقيدة شعب الله المختار) للمسيحيين باعتبارهم من ‘الﯖوييم’، أي من درجة دنيا في سلم البشرية”.
“أما البعد الضامر والخفي من هذه المأساة” فيتعلق وفق الكتاب الجديد بـ”اليهود الذين وقعوا في فخ تصديق السردية الصهيونية بإقامة وطن آمن لهم في ‘أرض بلا شعب’، ظلت فارغة وموعودة ‘لشعب بلا أرض’ أكثر من ألفي سنة! فقد تم استدراجهم نحو هذا الحل الصهيوني، وتم تهجيرهم من أوطانهم الأصلية ليتحولوا إلى مستوطنين يمارسون منذ حوالي قرن من الزمن أبشع أساليب التطهير العرقي والفصل العنصري والإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني صاحب الأرض”، وزاد: “لقد تم تهجير يهود أوروبا أولا، ثم لاحقا جيء بيهود الحوض الحضاري الإسلامي، الذين لم يعيشوا أي اضطهاد يبرر تهريبهم من أوطانهم، وتحويلهم إلى مكون من مكونات مشروع احتلال استيطاني إحلالي عنصري ونازي ضد المسلمين الذين عاشوا معهم عصرهم الذهبي، في أمن وتساكن وتعايش لم يعرفه منه يهود الحوض الحضاري المسيحي شيئا على الإطلاق”.
ومن بين ما لفت إليه الانتباه الوزير السابق أنه “في مجتمع الجماعات اليهودية، خاصة بعد طوفان الأقصى الذي حول فلسطين المحتلة إلى أخطر مكان على أمن اليهود في العالم، توجد دعوات متصاعدة وصريحة لخروج اليهود من أسر الإيديولوجية الصهيونية، من أبرزها البيان التاريخي للناشطة اليهودية الكندية نعومي كلاين، وكتابات ومواقف رموز فكرية يهودية كثيرة، أغلبها من تيار ‘المؤرخين الإسرائيليين الجدد’، الذين يناهضون الرواية الصهيونية لتاريخ فلسطين المعاصر، في إطار نقد اجتماعي سياسي حديث لنشأة الكيان الصهيوني، من أمثال إيلان بابي، وشلومو ساند، وآفي شلايم، وهو تيار يتسع ويتنامى تحت مسمى ‘تيار ما بعد الصهيونية'”.
هذا الكتاب الجديد، حسب المؤلف، اعتمد على مراجع جلها غربي ومواقف جلها للمفكرين اليهود، تبين “تهافت السردية الصهيونية المهيمنة لعقود على العقل الغربي، قبل أن يأتي ‘الطوفان’ يوم 7 أكتوبر 2023 كحدث كبير صنعه شعب مضطهد ومستضعف لعقود، كجواب عن اغتيال كل مبادرات وحلول أي سلام عادل، والمتجسد بالضرورة في زوال الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية، وعودة اللاجئين إلى وطنهم، وبذلك تكون ‘المسألة اليهودية’ دخلت مع فشل الحل الصهيوني في مأزق وجودي غير مسبوق.. لأن حالة التعايش المستحيل تاريخيا مع المسيحيين في الحوض الحضاري الغربي تتكرر اليوم في زمن الثورة الرقمية، لتؤكد مرة أخرى استحالة تعايش نظام الفصل العنصري الصهيوني مع شعوب الحوض الحضاري الإسلامي، بعد أهوال حرب الإبادة التي اقترفتها دولته في حق الشعب الفلسطيني”.
ويستعرض الكتاب، وفق تصريح الشوباني، “معطيات تاريخية تبين بأن ‘المسألة اليهودية’ مرت على امتداد حوالي عشرين قرنا بسبع حقب تاريخية، وكل حقبة تنشئ مآزق تستدعي البحث عن حل، ثم ما يلبث هذا الحل أن ينتج عنه مأزق جديد، ونحن نعيش اليوم مع طوفان الأقصى، في القرن الواحد والعشرين، الحقبة السابعة والمأزق السابع من تاريخ حلول ومآزق ‘المسألة اليهودية’؛ لأن يوم 7 أكتوبر شكل لحظة انفجار طوفاني جبار في سيميائيات شكله وتوقيته وتداعياته، وقد هز الضمير العالمي، وأصاب السردية الصهيونية في مقتل”.
ولم يكتف الكتاب، وفق المصدر نفسه، ببناء سردية المأزق الوجودي للحل الصهيوني للمسألة اليهودية، بل ختم انشغاله الفكري بسؤال إشكالي هو: “بعد فشل الحل الصهيوني الذي رحَّل من خلاله الغرب الاستعماري والحركة الصهيونية ‘المسألة اليهودية’ من أوروبا، وحاولا أن يجدا لها حلا نهائيا بإقامة وطن قومي آمن لليهود في قلب الحوض الحضاري الإسلامي، فهل هناك حل إسلامي حضاري للمسألة اليهودية التي تم توطينها في قلب هذا الحوض ووسط شعوبه التي تناهز حوالي مليارين من البشر؟”.
يجيب الباحث في العلوم السياسية بأن “الكتاب اقترح خطاطة فكرية تستشرف إمكانية وجود حل حضاري إسلامي، له أسسه وخصائصه وآلياته، من شأنه المساهمة في تعزيز السلم العالمي، من خلال تقديم حل نهائي للمسألة اليهودية يمر عبر عملية تحرير مزدوج: تحرير الشعب الفلسطيني بإنهاء الاحتلال الاستيطاني لفلسطين، وتحرير اليهود من أسر الصهيونية، وهو حل يعني إقامة دولة فلسطينية موحدة يتعايش فيها الجميع على أساس المواطنة والمساواة، تكون تتويجا لتفكيك نظام الفصل العنصري القائم في فلسطين المحتلة، في إطار تطوير وتنفيذ نموذج خاص للعدالة الانتقالية على غرار ما جرى في جنوب إفريقيا، وهو حل يستدعي حصول تحولات جوهرية في موازين القوى العالمية، لأن تفكيك آخر نظام تمييز عنصري عرفته البشرية لا يعني فقط تحرير فلسطين من الاحتلال وتحرير اليهود واليهودية من الصهيونية، بل يعني تحرير العالم من نظام دولي غير عادل، لأنه نظام يقوم على تمجيد عقيدة القوة… ولا يقيم وزنا لقوة المبادئ الإنسانية والمواثيق الدولية المجمع عليها، التي بها وحدها يمكن أن يتحقق للبشرية تعارف عالمي جديد، وحضارة إنسانية جديرة بهذا النعت”.