توفي، بمدينة وجدة، الأستاذ بنيونس مرزوݣي، عن عمر ناهز سبعين سنة. يعرف بأستاذ الأجيال، أصدقاؤه المقربون من شخصيات عامة وصحافيين وسياسيين وأكاديميين يلقبونه بـ”الزعيم”. شخصية فريدة، ترعرع وعاش على البساطة وقساوة الحياة والطبيعة؛ مما جعل الجدية تعلو محياه. حياته حافلة بالأحداث والوقائع، رافق تحولات سياسية مفصلية شهدها المغرب منذ سبعينيات القرن الماضي.
الزعيم
كتب عنه الصحافي علي تزلكاد في يونيو 2000 مقالا بجريدة “ماروك إيبدو أنترناسيونال” تحت عنوان “زعيم بالرباط” بعد تعيينه في مهام وزارية استشارية، ويصفه على الشكل التالي: “نشيط، ذكي، جذاب، ولد ليكون زعيما، قائدا للإضرابات والفرق الموسيقية والنقابة بجامعة محمد الأول، حيث جسد منذ 21 سنة متواصلة حركة سياسية يسارية ما يزال يناضل وسطها باستمرار”.
خفيف الظل، يستقبلك دائما بابتسامة عريضة وبعبارة لا تفارقه أبدا، لا يتوقف عن ترداد “أهلا وسهلا” عندما يستقبل الناس أو يجيب على هاتفه. سريع البديهة، يمتلك ذاكرة قوية وقدرة عجيبة عل الاستذكار، يتذكر ويحفظ بسهولة أسماء الأشخاص وملامح وجوههم، ومختلف التواريخ والتفاصيل الدقيقة وأسماء الأماكن وعناوين الكتب.
لا يعبأ بالمظاهر كثيرا. رجل صلب الشكيمة، رغم سنه هو شاب الهمة، لا تفارق البسمة والبهجة محياه. يحب الدعابة وينثر خيوط السعادة والألفة والمؤانسة في كل جلساته، شديد الإحساس بمحيطه، وحسه الاجتماعي الذكي يجعله سهل المعشر، يتسع قلبه لجميع الناس. منذ أول احتكاك يزيح عنك المسافة والحذر والبروتوكول، فلا تشعر معه بأية كلفة لأنه إنسان بسيط يبتعد ما أمكن عن الشكليات والأضواء.
عبر مسار سياسي حافل من تنظيم “23 مارس”، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، لغاية الاندماج في الاتحاد الاشتراكي، كان الأستاذ بنيونس مرزوݣي شاهدا على منعطفات سياسية مفصلية عاصر خلالها كبار السياسيين والإعلاميين المغاربة. ذاكرة حية زاخرة بتفاصيل عديدة عن الحياة السياسية والدستورية المغربية منذ ثمانينيات القرن الماضي، ذو معرفة عميقة ودقيقة بالكثير من محطات التاريخ الراهن للمغرب.
وجه مألوف في القنوات التلفزيونية والإذاعية الوطنية والجهوية، ذو فكر موسوعي، متعدد المواهب، موسيقي موهوب منذ شبابه؛ ومتذوق للسينما وممارس للمسرح. علمته دروب الحياة دروسا عديدة، حياته لم تعرف فراغا ولا مللا، هي مملوءة بزخم من الأنشطة التدريسية الأكاديمية والسياسية والجمعوية والنقابية. مناضل يساري، عُرف بفصاحة الفكر وتفاؤل الإرادة.
الاسترسال في تبادل الحديث معه يجعلك تنغمس في عبق زمن السبعينيات والثمانينيات، فهو شاهد وجزء من العديد من التجاذبات والصراعات والحروب الإيديولوجية والفكرية خلال توهج الفكر اليساري.
هو نافذة واسعة مفتوحة تطل على الكثير من التفاصيل الدقيقة للتاريخ الراهن للمغرب، والتي لن تجد لها أثرا في أي كتاب أو مذكرة، خصوصا المرحلة الحرجة للصراعات السياسية والتدافع الإيديولوجي الحاد بالمغرب. لديه قصص مثيرة وطريفة مع العديد من الشخصيات السياسية والفكرية، ويمتلك قدرة على الحكي بنفَس السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع السياسي.
تمرس وخبر العمل الصحافي والنقابي والجمعوي والنشاط الحزبي السياسي، راكم تجربة طويلة وثرية في تقريب الجامعة والبحث العلمي من القضايا الضاغطة للسياسة والمجتمع، وجعل الجامعة في صلب المجتمع والتدافع السياسي وخدمة قضايا الوطن. ولم يبخل يوما في الإسهام في أنشطة الجامعات والجمعيات والأحزاب في كل الربوع، كرس جزءا كبيرا من حياته لربط الجامعة بمحيطها الاجتماعي والسياسي، فكان دائم الحضور في العديد من الندوات، متتبعا نهما وفاعلا لمختلف المسارات السياسية والدستورية المفصلية في تاريخ المغرب الحديث.
ذاكرة مرجعية لا محيد عنها بخصوص تاريخ مدينة جرادة حين كانت مدينة عمالية كوسموبوليتية زاخرة بزخم نقابي وسياسي وثقافي وفني فريد من نوعه في التاريخ الحديث للمغرب. فضلا عن كونه أحد أفضل من له إطلاع واسع على ذاكرة جرادة، فإنه أيضا الحارس الأمين الحافظ لذاكرة كلية الحقوق بوجدة منذ عام 1979، وعلى معرفة دقيقة بأساتذتها وأحداثها، ولديه سجل توثيقي وأرشيف ضخم ومرتب بشكل احترافي، معزز بالصور حول الأنشطة العلمية والنقابية التي عرفتها كلية الحقوق منذ بداياتها.
في البدء كان حاسي بلال والمنجم
مرزوݣي بنيونس مزداد بتاريخ 13 دجنبر 1954. كان من المفروض أن يزداد بجرادة؛ لكن لصعوبات صحية ألمت بوالدته ازداد بمستشفى الفارابي بوجدة. من عائلة عمالية ونقابية؛ فوالده وبعض إخوته عمال منجميون.
يعتبر نفسه ابن منطقة حاسي بلال، ويعتز بالانتماء إليها. اشتغل والده منذ 1936 بمنجم جرادة وتوفي في 26 ماي 1964 بمرض السيليكوز الذي نهش أجساد المئات من العمال المنجميين. أمضى جزءا من طفولته في الحي المغربي (حي الأهالي) بحاسي بلال، وهي عبارة عن مجموعة أحياء عمالية متناثرة، كل حي مخصص لقبيلة أو مدينة ما (ديور مراكش، ديور تازة، دبدو…). وحدث انصهار عجيب بين مجموعة مكونات: السوسية، التازية، الصحراوية، المراكشية، الريفية، والمكونات القبلية المحلية العربية والأمازيغية.
عاش طفولته في زخم الحياة العمالية بالمنجم ومتأثرا بكفاح والده البسيط، الذي سكن في “باب السمار” أو “ديور الزنك” التي كانت بؤرة عمالية لا تخطئها العين. وهو طفل شهد الاعتصامات والإضرابات وتدخل القوات العمومية في بداية الستينيات، كان يقف بجانب والده مرات عديدة خلال اندلاع مواجهات أو مناوشات مع القوات العمومية. واكتشف التمييز الطبقي واصطدم واتقد وعيه السياسي والنقابي في سن مبكر وهو يعاين الحياة البئيسة بالمنجم ويشاهد الشرخ الواسع بين الأحياء العمالية المغربية الفقيرة ومساكن الأوروبيين الراقية جدا في ما سمي بالحي الأوروبي. لم يكن هناك وجه للمقارنة، فالمدينة الأوروبية مشكلة من مساكن فيلات شاسعة مع نوافذ واسعة ووسط حدائق من الأزهار والأشجار. أما مساكن الحي العمالي المغربي فكانت بئيسة ضيقة ولا تصلح للبشر.
جرادة حاسي بلال، القلعة العمالية الكبرى وبلاد الرغيف الأسود، بصمت حياة الأستاذ مرزوݣي بنيونس للأبد، سكنته في أعماقه وأحبها حتى الثمالة وعشقها عشقا مؤلما، وشمته بندوب الألم وإشراقات الأمل والأحلام، منحته معنى الحياة وصقلت مسار حياته وحررت طاقاته.
شغف الموسيقى
ينتمي مرزوݣي إلى عائلة شغوفة بالموسيقى، شغفه بالموسيقى كان مبكرا، ويمتلك “الزعيم” حسا فنيا مرهفا في الموسيقى وهو عازف جيد للغيتار والسنتيتيزور (جهاز المزج)، ويعزف أيضا على آلة العود، ولديه إعجاب شديد بالفرقة الغنائية الشهيرة البيتلز وبفرقة ناس الغيوان.
شكل في حاسي بلال منذ شبابه فرقة موسيقية غيوانية، مع إخوانه ومجموعة من أصدقائه. وبعد تيه كبير بين الأغاني الشعبية المغربية، اختار النمط الغيواني. وبعد التحاقه بكلية الحقوق بوجدة، وجد نفسه وسط أساتذة يجيدون العزف، سواء على آلة العود أو القيثارة أو الناي..
مع منتصف سبعينيات القرن الماضي، وخلال حياته الجامعية في فاس كان معروفا بقيثارته، وكثيرا ما كان ينشط الأمسيات الطلابية بحي “ظهر المهراز”.. وعلى الرغم من أنه كان يحب آلة البانجو فإن ثمنها لم يكن في المتناول. واستمر اهتمامه بالعزف حتى عند الانتقال لمتابعة الدراسات العليا في الرباط. استمر الأستاذ بنيونس على عهده حين يضيق صدره يختلي بنفسه للاستمتاع بالعزف على البانجو.
حس حقوقي مبكر
انخرط بشكل مبكر في العمل الحقوقي، كان من أوائل أعضاء الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بعد تأسيسها عام 1979، وكان يحمل بطاقة انخراط رقم 17، واكب وشارك في العديد من الأنشطة والتكوينات والمحاضرات والندوات التي نظمتها الجمعيات الحقوقية المختلفة وبالخصوص الجمعية والعصبة والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وكانت تهم مواضيع متعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والحقوق السياسية والمدنية، والحقوق الثقافية، وقضايا المساواة ومقاربة النوع، والدستور وحقوق الإنسان، والانتخابات، والضمانات القانونية والقضائية للحق في الإضراب، والحق في تأسيس الجمعيات…
كما نشر العديد من المقالات والدراسات والتقارير ذات الصلة الوثيقة بحقوق الإنسان. وكان “الزعيم” من أوائل الأكاديميين الذين أثاروا مسألة دسترة الأمازيغية. وعند تحضير مشروع دستور 1992 قام بجولة ألقى فيها محاضرات تحت عنوان “الحقوق اللغوية والثقافية في التجارب الدستورية العالمية”، وطالب فيها آنذاك بدسترة الأمازيغية؛ لكن بعد ازدياد الوعي بالقضية الأمازيغية بين 1996 و2011 لم يعد يهتم بالموضوع.
الاهتمام بمجال الحقوق والحريات جعل الأستاذ بنيونس ينخرط في مختلف المبادرات الحقوقية؛ بل ويساهم في أنشطتها، بغض النظر عن تحيزاتها السياسية. فإضافة إلى التنظيمات أعلاه، عمل مع مركز حقوق الناس، والهيئة المغربية لحقوق الإنسان، والمركز المغربي لحقوق الإنسان. كان صديقا ورفيقا للعديد من الحقوقيين، وبادر إلى المطالبة بإحداث المجلس الأعلى للمرأة ودسترته وتم تعيينه عام 2012 عضوا باللجنة الجهوية لحقوق الإنسان لوجدة ـ فكيك التابعة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
عرف “الزعيم” بدفاعه عن حقوق النساء، وكرس جزءا كبيرا من جهوده الأكاديمية والتكوينية للدفاع عن تعزيز تمثيلية النساء في مراكز صنع القرار وإنصاف المرأة المغربية، ونشر دراسات عديدة تهم إشكاليات وقضايا المناصفة والمساواة والتمكين السياسي للنساء، ووضعية النساء في كل من مدونة الأسرة والقانون الجنائي وقانون الشغل.
شارك في تحرير أو تنقيح وتصحيح العديد من التقارير الدولية حول الحقوق النسائية، وخاصة من ذلك التقرير حول “القوانين والسياسات والممارسات المتعلقة بواقع مقاربة النوع الاجتماعي بالمغرب”، لصالح المركز الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي للدول العربية، إضافة لدراسات أخرى لفائدة هيئة الأمم المتحدة للمساواة، من قبيل دراسة موسعة حول مشروع قانون هيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز. كما أنه واكب أشغال لجنة مجلس النواب الخاصة بالمساواة والمناصفة.
مسار زاخر
حصل على الإجازة في العلوم السياسية سنة 1977من كلية الحقوق جامعة محمد بن عبد الله بفاس، وعلى دبلوم الدراسات العليا في القانون العام من جامعة محمد الخامس سنة 1984بعد شهادتي دبلوم الدراسات العليا في علم السياسة والعلاقات الدولية عامي 1978 و1979. كما حصل على دكتوراه الدولة في القانون العام سنة 2022. غالبا ما يقدم نفسه كأستاذ باحث في القانون العام، ولكنه في الواقع أكثر من ذلك.
لا يمكن ذكر كلية الحقوق بوجدة إلا ويكون اسمه حاضرا، فقد كان من مؤسسيها عام 1979 مع أغلبية من الأساتذة الأجانب القادمين من مصر والأردن وسوريا والعراق والسودان وفرنسا. التحق الأستاذ مرزوݣي بكلية الحقوق بجامعة محمد الأول في فاتح أكتوبر 1979. تفاجأ بأن كل طاقم هيئة التدريس كانوا في القانون من الأساتذة الأجانب العرب، وشعبة الاقتصاد كانت “مليئة” بالأساتذة الفرنسيين أساسا! تأثير العيش بجرادة كان واضحا على نزعته النقابية، أول شيء قام به بعد التوقيع على محضر استلام العمل في فاتح أكتوبر 1979 هو البحث عمن يؤسس معه فرعا للمكتب المحلي للنقابة الوطني للتعليم العالي. وكان أول كاتب عام لأول مكتب محلي للنقابة الوطنية للتعليم العالي بكلية الحقوق، كان المكتب نشيطا ويعقد لقاءات عديدة مع تعاضدية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بالكلية.
يمتلك قدرة هائلة وذاكرة قوية بتفاصيل التفاصيل، عبر حسابه بالفيس بوك والمواقع الإعلامية لم يتوقف عن تقديم مادة إعلامية وفكرية جادة يعلق فيها عبر حلقات عديدة على الكثير من الوقائع الدستورية والأحداث السياسية الوطنية والدولية، وكذا على ذكرياته بجامعة محمد الأول. عضو في هيئات علمية عديدة؛ كالجمعية المغربية للقانون الدستوري، ومجموعة البحث في القانون والأسرة بكلية الحقوق وجدة، ومركز الدراسات والأبحاث حول الهجرة المغاربية، ومجموعة البحث في العلم والثقافة… شارك في ندوات دولية عديدة بإسبانيا والأردن وتونس والجزائر ولبنان،… كما أنه كان عضوا في اللجان العلمية للعديد من المجلات الأكاديمية.
درس الأستاذ مرزوݣي بنيونس لأجيال من الطلبة، الكثير منهم أصبحوا أطرا عليا بالدولة (وزراء، دبلوماسيون، أساتذة جامعيون، برلمانيون…) مواد المصطلحات القانونية، الأنظمة السياسية للدول النامية، القانون الدولي العام، القضاء الإداري، المرافق العامة الكبرى المعاصرة، تسيير المقاولات العمومية، المفاهيم الأساسية للقانون العام، القانون الدستوري، الأنظمة الدستورية الكبرى. كان له دور مهم في تأسيس تخصص العلوم السياسية في كلية الحقوق في العقد الأول من هذا القرن. نشر المئات من الدراسات المتعلقة بالمجال الدستوري والانتخابات وحقوق الإنسان، إعداد التراب الوطني، الأحزاب السياسية. والتحق بالوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان عام 1998، وعين مكلفا بالدراسات بديوان السيد الوزير. ومن خلال هذا المنصب، عايش تفاصيل سير أشغال حكومة المرحوم عبد الرحمن يوسفي.
أنجز دراسات قانونية وسياسية عديدة، وقدم مشاريع نصوص تهم القوانين التنظيمية والقوانين العادية، كما أنه عاد مرة ثانية إلى الوزارة نفسها كرئيس ديوان انطلاقا من سنة 2009، ومرة أخرى إلى مجلس النواب كخبير استشاري انطلاقا من سنة 2016. خلال هذه المراحل كلها، لم ينقطع عن التدريس الجامعي. وكثيرا ما تم الاستماع إليه كخبير خلال إعداد الكثير من التقارير الصادرة عن المؤسسات الدستورية.
على مستوى الإعلام، في سجله ما لا يعد من مقابلات واستجوابات ومساهمات إعلامية عديدة، وهي في الغالب ذات نفحة أكاديمية. كتب بشكل منتظم في الصحف: الصحيفة، المغرب الجديد، البيضاوي، أنوال، الوطن الآن، العالم الأمازيغي، المشعل، الاتحاد الاشتراكي، العلم، والسياسة الجديدة…، كما كان يتم الاستشهاد بمساهماته في جرائد عديدة من قبيل الصحراء المغربية، السياسة الجديدة، Aujourd’hui le Maroc, Tel Quel, l’essentiel، أو تغطية الأنشطة التي يقوم بها من قبل جرائد كالأسبوعية، بيان اليوم، الاتحاد الاشتراكي، جريدة المستقلة اللندنية.
أسهم في الصحافة الجهوية كفاعل مهم في النهوض بها في الجهة الشرقية. وقد أسهم في جرائد الشرق، الحدث الشرقي، الحياة المغربية، الحدود، البلاغ، المنبر، الجهة الشرقية. كما كان وراء جريدة وطنية وجهوية ومحلية تحت اسم “السند”.
نشيط جدا في الإعلام السمعي البصري، سواء عبر المشاركة في برامج مختلفة ذات النفس الأكاديمي في قناة الأولى والقناة الثانية وقناة ميدي1، والإذاعة المركزية بالرباط والإذاعة الجهوية بوجدة، وقنوات إذاعية وتلفزية خاصة (الحرة، كازا ف م، أتلنتيك، كاب راديو…). كثيرا ما استدعي للقنوات التلفزيونية للمشاركة في برامج حوارية أو تحليل أحداث أو مستجدات أو إشكاليات قانونية ودستورية. وقد كان عضوا بمجلس المؤسسة بالمعهد العالي للإعلام والاتصال.
الخبير الدستوري
ارتبط الأستاذ مرزوݣي بشكل كبير بالقانون الدستوري، وليست صدفة أن أول حصة تدريس جامعي في حياته همت الدروس التطبيقية لمادة “القانون الدستوري والأنظمة السياسية”. ومنذ ذلك الحين جرت مياه كثيرة وتعاقبت وقائع دستورية حافلة انسابت تحت جسر رحلة مسار دستوري دامت 44 سنة.
عرف بنشاطه الحزبي وحضوره الأكاديمي المتميز في النقاشات المتعلقة بالمسألة الدستورية خلال بداية التسعينيات في إطار ببداية “الانفتاح السياسي” و”الانفراج السياسي والحقوقي”.
في يوم السبت 22 فبراير 1992 كان حضوره لافتا خلال الندوة الشهيرة تحت عنوان “الإصلاحات الدستورية” التي نظمتها آنذاك الأحزاب الثلاثة المعارضة: منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، حزب الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بالمركز العام لحزب الاستقلال بالرباط، والتي خلصت إلى ضرورة الإصلاح السياسي الديمقراطي كخيار وحيد. شارك في هذه الندوة التي شكلت حدثا وطنيا متدخليْن اثنين عن كل حزب: عبد الكريم غلاب، وامحمد خليفة، عن حزب الاستقلال؛ عبد الرحمان القادري وعبد القادر باينة عن الاتحاد الاشتراكي؛ عبد الله ساعف وبنيونس مرزوݣي عن منظمة العمل الديمقراطي الشعبي. أثار العرض الذي تقدم به الأستاذ بنيونس مرزوݣي نقاشا واسعا لأنه اقترح سقفا مرتفعا من الإصلاحات بعضها لم يجد له مكان حتى دستور 2011. يروي الزعيم عن هذه اللحظة: “كانت القاعة غاصة بجمهور من حوالي 300 شخص، من أعضاء القيادات الوطنية للأحزاب الثلاثة، تم تكليفي بتقديم اقتراحات لتعديل مقتضيات دستور 1972. يمكن القول إن “اقتراحاتي” التي لقيت تجاوبا واسعا، استحسنها الجمهور الحاضر، ولقيت تجاوبا وتم نشر معظم مقترحاتي في الصحافة الوطنية. سرني جدا تهنئة قيادات الأحزاب المنظمة، وخاصة المرحوم عبد الرحمان يوسفي، واليازغي، بوستة، وبنسعيد. طيلة وجبة الغذاء ومناقشات المساء، كان النقاش حول مقترحاتي”.
من بين الاقتراحات التي قدمها في عرضه آنذاك: ضرورة النص في الديباجة على احترام الدولة لحقوق الإنسان وفقا للمعاهدات الدولية التي صادق عليها المغرب؛ النص على معاقبة القانون على التعسف في استعمال السلطة وخرق حقوق الإنسان؛ ضرورة دمقرطة الإعلام الرسمي؛ تحويل الغرفة الدستورية لمجلس دستوري؛ إقرار الاقتراع اللائحي وفق أكبر بقية؛ إنشاء المجلس الأعلى للمرأة؛ المجلس الأعلى للأمن والدفاع؛ المجلس الاقتصادي والاجتماعي، المجلس الأعلى للإعلام، المجلس الوطني لحقوق الإنسان؛ دسترة المجلس الأعلى للحسابات؛ توسيع صلاحيات البرلمان مع اقتراحات ملموسة؛ تنظيم العلاقة بين البرلمان والحكومة بشكل أفضل…هذه المقترحات وغيرها، تضمن دستور 1992 جزءا منها، وجزءا آخر في دستور 1996، والباقي وجد مكانه في دستور2011.
لم يتوقف انشغاله بالقضايا الدستورية عبر المشاركة في الندوات العلمية الأكاديمية إلى جانب الندوات واللقاءات العامة. ظل مرتبطا في الجامعة بالدرس الدستوري، حيث درس القانون الدستوري المعمق في قسم الدراسات العليا بكلية الحقوق وجدة؛ ومادة الأنظمة الدستورية الكبرى التي تم فصلها عن مادة القانون الدستوري. وقد مكنتنه التجارب المهنية بالوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان، وبمجلس النواب، من تطوير تصوره للمسألة الدستورية، كما توسع اهتمامه ليشمل القانون البرلماني.
كانت له مساهمات عديدة عند التحضير للمراجعة الدستورية سنة 2011، من خلال المداخلات، والمقالات، والمساهمات الكثيرة في الإعلام السمعي البصري، والمكتوب، واللقاءات الحزبية والندوات الأكاديمية. وتم تكليفه لمدة شهر كامل للتحضير والإشراف على البرامج والنشرات الإخبارية بالإذاعة الوطنية، في كل ما له صله بالدستور، خلال حملة الاستفتاء. بالموازاة مع هذا الاهتمام بالمجال الدستوري والبرلماني، تخصص بشكل موسع في موضوعين اثنين: أساليب الاقتراع، وتمثيلية النساء في المؤسسات المنتخَبَة.
وإضافة إلى الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني، ساهم في أنشطة مؤسساتية كثيرة، وخاصة من ذلك: أنشطة مجلس النواب: مشروع تعديل النظام الداخلي، مواكبة أشغال مجموعة العمل “برلمانيات من أجل المساواة”، إنجاز أعمال لصالح لجنة العمل الموضوعاتية حول المناصفة، وأنجز ونشر في هذا الإطار حصيلة النساء البرلمانيات بمجلس النواب لأربع ولايات تشريعية 2002-2019. وكان في آخر أيامه بصدد الترتيبات النهائية لإصدار أول مجلة أكاديمية محكمة متخصصة في القضايا الدستورية والسياسية وهي تحت اسم “المغرب الدستوري”.
مت فارغا !!
على نهج “تود هنري”، آمن الأستاذ بنيونس مرزوݣي بحكمة “لا تذهب إلى قبرك وأنت تحمل في داخلك أفضل ما لديك، اختر دائما أن تموت فارغا”. الحياة رحلة عطاء وترك أثر طيب. لذا حياته مسار بلا ركود ولا سكون، ينثر أوراقه وذكرياته الممتلئة رافضا لكل خواء، وهو يعي جيدا بأن الحياة قصيرة وتستحق أن تعاش وأن يفرغ الإنسان كل ما لديه من أفكار وطاقات وذكريات حتى لا يطالها النسيان وحتى لا تبقى منغلقة داخل الجسد أو حبيسة الدواليب والحواسيب والرفوف الباردة.
اختار العيش وسط المساحة غير الهادئة وبدون أقنعة، يمقت الملل، المعاني الجاهزة والوصفات السريعة والتفكير الخطي ويحتفي دائما بالحيرة والقلق والسؤال الذي ينحاز إلى الحرية وإنسانية الإنسان، ويحب توجيه بوصلة التفكير دائما نحو الجدل وبناء الأمل التاريخي.
لديه ذاكرة قوية ويتذكر كل التفاصيل والأسماء ولديه حس أرشيفي عجيب، حيث يحتفظ ويعتني برصيد أرشيفي ضخم (وثائق، صور، قصاصات الجرائد، فيديوهات، …) يهم كل مساره الدراسي والسياسي والإعلامي والحقوقي والجامعي، وكل ما يتعلق بمدينة جرادة. وهذا الرصيد الوثائقي منظم ومرتب بشكل دقيق على مستوى التواريخ والمواضيع. تصوروا أنه يحتفظ بصور وبرنامج كل الندوات والأنشطة التي شارك فيها منذ الثمانينيات ويحتفظ بنسخ الامتحانات ومسودة أجوبته عليها وبسجل النقط التي حصل عليها منذ أن كان تلميذا في قسم الابتدائي الثاني في مدرسة أبي عبيد البكري إلى أن أكمل دراساته العليا!! كما يحتفظ على أشرطة فيديو كاسيت عديدة للأفلام التي كانت تعرض في النوادي السينمائية سواء بجرادة أو وجدة. لكل هذا وذاك جمع “الزعيم” كل مداخلاته المكتوبة والصوتية والسمعية البصرية، ويعمل جاهدا على نشرها ضمن قناة خاصة أنشأها لهذا الغرض وذلك تحت عنوان: “تقاسم المعرفة”.
في قلبه غصة، كانت أمنيته وحلمه أن يكون مخرجا سينمائيا، في نهاية السبعينيات كان على وشك أن يغادر لفرنسا مع جيرانه الفرنسيين بالحي الأوروبي، ليتعلم مهنة السينما والسيناريو؛ لكنه كان مضطرا إلى الامتثال لرغبة والدته التي رفضت بتاتا مغادرته لفرنسا.
رغم تسارع الأيام التي تلتهم العمر، فإنه ظل دائما يفضل تأمل الصخب بشكل عميق بعيدا عن خواء الصمت، وفي كل مرة تندس طاقات استكشاف جديدة في دواخله فتنبجس منها رحلات وجولات وحكايات وكلمات. يستيقظ كل يوم على مشاريع وأفكار ولا يسمح بالخمول أن يدب لجسده وعقله، استمر مصمما على العمل وعيش شغفه بالكتابة والتدوين وتتبع الأنشطة الأكاديمية، وهو لا يتوقف عن الاستجابة لدعوات للمشاركة في الندوات الأكاديمية في كل ربوع الوطن. لقد صنع لنفسه عالما خاصا به، في كل مرة يأخذ نفسا عميقا استعداد ليس للاسترخاء بل لبدء رحلة جديدة..
رحمك الله أستاذي العزيز بنيونس مرزوكي. برحيله خسر المغرب أحد أعلامه الأكاديمية والإعلامية والسياسية الرائدة، وتوقفت رحلة عمر ممتلئة تعج بالذكريات، لكل قصة رواية ولكل مكان عبق ولكل مبتغى درب، تلك شذرات من أصول حكاية ونمط حياة ورؤية عالم شعارها: أموت فارغا!