أخبار عاجلة
صفحة إلكترونية تغضب نادي الجيش -
انعدام المياه يؤرق ساكنة "بوزعافر" -

"حميميات باردة" .. الرأسمالية العاطفية تحول المشاعر إلى سلع تجارية

"حميميات باردة" .. الرأسمالية العاطفية تحول المشاعر إلى سلع تجارية
"حميميات باردة" .. الرأسمالية العاطفية تحول المشاعر إلى سلع تجارية

1

تناولتُ في بعض الأحاديث السابقة مسألة العواطف والمشاعر، مستندًا في ذلك إلى نصوص إبداعية وفكرية وفلسفية. وقبل أيام، قادني هذا الاهتمام مصادفة إلى قراءة كتاب إيفا اللوز بعنوان “حميميات باردة: تشكيل الرأسمالية العاطفية”.

تكتسب هذه الدراسة، في تقديري، أهميتها من بحثها في تأثير الرأسمالية على المشاعر، من خلال فهم التحولات المعاصرة التي تهمّ العلاقات الإنسانية والسلوك الاجتماعي، وكذلك تأثير العوامل الاقتصادية والثقافية على تجربتنا العاطفية. إذ تُبيّن أن العواطف لم تعد مجرد تجارب فردية، بل أصبحت جزءًا من نظام أوسع من التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية. يُمكّن هذا الفهم الأفراد والمجتمعات من استعادة الوعي النقدي بكيفية تشكيل ثقافة الاستهلاك لمشاعرهم، مما يسهم في تقدير أهمية العلاقات الإنسانية، ويدعو إلى إعادة تمثّل القيم الأخلاقية المرتبطة بالحب والعلاقات الصادقة. وبهذا الاختيار، تُقدّم الدراسة إطارًا نظريًا قابلًا للنقاش لفهم الديناميات الاجتماعية في العالم المعاصر، مما يجعلها ذات قيمة علمية وعملية في مجالات علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية.

ولدت إيفا اللوز في فاس بالمغرب، وهي عالمة اجتماع وأكاديمية فرنسية متخصصة في علم اجتماع المشاعر والثقافة. تعمل مديرة للدراسات في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (EHESS) منذ عام 2015. تهتم إيفا اللوز بتحليل الروابط بين العواطف والتواصل في إطار مجتمع الاستهلاك. كما تهتم بدور وسائل الإعلام في إبداع وابتكار المفردات، والاستعارات، والعلل التي من خلالها ندرك ونعبّر عن حياتنا العاطفية. تنتسب أعمالها، التي تغطي إطارًا واسعًا من التحليل، إلى مجموعة متنوعة من التخصصات مثل علم الاجتماع التاريخي، والأنثروبولوجيا، والسيمائيات.

في كتابها “حميميات باردة: تشكيل الرأسمالية العاطفية”، تقدّم إيفا اللوز دراسة معمّقة تُعنى بعلاقة العواطف بالعالم الرأسمالي المعاصر. تستعرض الكاتبة كيف أسهمت التحولات الاقتصادية والاجتماعية في تغيير طبيعة العلاقات الإنسانية، معتمدةً على جملة من المفاهيم النفسية التي تكشف من خلالها عن آليات استغلال العواطف ضمن السياق الرأسمالي الجديد، مما يؤدي بالضرورة إلى تحويل العلاقات إلى سلع قابلة للتبادل والاستهلاك.

ترى إيفا اللوز أن الرأسمالية العاطفية هي عملية تحويل العواطف إلى سلع تجارية، حيث تُعامَل المشاعر بوصفها عناصر قابلة للتداول في السوق. وبذلك، تؤدي هذه العملية إلى فجوة بين التوقعات المثالية للعلاقات العاطفية والواقع الفعلي؛ تناقش الكاتبة كيف تسهم الثقافة، بما في ذلك الأفلام والموسيقى، في تشكيل تصورات المجتمع عن الحب والعلاقات، مما يضع معايير غير واقعية قد تقود إلى الإحباط والفشل.

تُبرز إيفا اللوز تأثير ظروف العمل الحديثة وما تفرضه من ضغوط نفسية على الحياة العاطفية للأفراد، إذ أصبح من الواضح اليوم أن ساعات العمل الطويلة والتوتر المتصاعد يؤديان إلى نشوء ما يُسمى بـ “الحميميات الباردة”، حيث تأخذ العلاقات مظهرًا عاطفيًا في الظاهر، لكنها تفتقر إلى عمق التواصل الإنساني ودفء المشاعر الصادقة.

2

كيفَ تؤثر الرأسمالية على الحياة العاطفية؟

يمكن القول إجمالا إن الرأسمالية تؤثِّر على الحياة العاطفية بطرقٍ متشابكة وعميقة، حيث تتسلَّل أفكارها وممارساتها إلى صُلب العلاقات الإنسانية وتُعيد تشكيل المشاعر بما يتوافق مع منطق السوق وقواعد التبادل. لا تغدو العواطف، في ظلِّ الرأسمالية، مجرَّد تجارب شخصية أو روابط إنسانية خالصة، بل تتحوَّل إلى سلعٍ قابلةٍ للاستهلاك والتجارة والتسويق. يبرز هذا التحول من خلال تسليع المشاعر، إذ تُروَّج مشاعر الحب والسعادة والطمأنينة في الإعلانات ووسائل الترفيه، وتصوَّر العواطف المثالية باعتبارها منتجا يمكن اقتناؤه، مما يجعل من الحب والعشق مثلاً سلعةً تُباع، لا حالةً شعورية تنبثق عن تفاعل عميق بين كائنين يتعلق أحدهما بالآخر حدَّ التوحّد.

بهذا المعنى، تُعيد الرأسمالية صياغة العلاقات العاطفية فتجعلها قائمةً على المنفعة، حيث يُنظَر إلى الشريك أو الشريكة لا بوصفه (ها) إنسانًا، بل باعتباره وسيلة لتحقيق مكاسب معينة، مثل الارتقاء الاجتماعي أو الضمان والأمان المادي. هكذا، تنحسر القيم الأخلاقية والمبادئ المشتركة لصالح قيم السوق حين تكرِّس تبادل المصالح، فتَضعُف العواطف الأصيلة وتتحول إلى حساباتٍ نفعيةٍ باردة.

لا أحد يجادل اليوم في أن تأثير الرأسمالية على العواطف لا يقف عند هذا الحد، بل يمتد إلى بيئات العمل التي حوّلت المشاعر إلى أدواتٍ لزيادة الإنتاجية وتحقيق الربح، والتشجيع على السعي المتواصل لتحقيق النجاح وفق معايير السوق، وهو ما يجعل الأفراد يشعرون بالقصور إذا لم يبلغوا تلك المعايير. يتجلى ذلك في شعور متزايد بالنقص أو عدم الرضا الذي يُضعف القدرة على تكوين علاقات صحية ومتوازنة، ويجعل عاطفة الحب خاضعة لضغوط خارجية تهدف إلى تحسين صورة الفرد أو ترسيخ مكانته الاجتماعية.

ومع تطور الرأسمالية الرقمية، باتت العلاقات تُدار عبر الوسائط الافتراضية الأمر الذي يغيِّر من طبيعة التواصل العاطفي ويجعله أكثر سذاجة. ذلك أن التكنولوجيا، بما تتيحه من سرعة في إنشاء العلاقات وإنهائها، تُسهم في خلق تجارب عاطفية سريعة الزوال، حيث تُستبدَل الروابط الإنسانية بالتفاعلات الرقمية السريعة، مما يُفرغ العلاقات من جوهرها الإنساني ويجعلها هشَّةً وعرضةً للانهيار.

بهذا، تُعيد الرأسمالية تشكيل العواطف بما يتماشى مع منطق السوق، الأمر الذي يؤثر سلبًا على العلاقات الإنسانية ويُفرغها من مضمونها، فتتحوَّل العاطفة إلى مجالات خاضعةٍ للتسعير والاستغلال، وتتغير طبيعة العلاقات من تبادل إنساني صادق إلى تجربة تجارية تفتقر إلى الارتباط النقيّ والحميم.

3

كيف نواجه العلاقات الباردة ونعيد بناء التواصل في عصر الرأسمالية العاطفية؟

يقترن كل حديث عن الحميميات الباردة كما أفرزها تصوّر الرأسمالية العاطفية بمفهوم بزوغ الإنسان العاطفي باعتباره تحوّلًا في طريقة فهمنا للمشاعر والعلاقات. يُشير هذا البزوغ إلى الوعي المتزايد بأهمية العواطف في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وكيف أن الرأسمالية تستفيد من هذا الوعي لتعيد تشكيل وصناعة علاقات جديدة؛ من هنا ازدهار الكتب والدورات التدريبية المتعلقة بتنمية العلاقات العاطفية و” الكوتشينغ” من كل الأصناف، عدا انتشار عناوين كتب تلقى الرواج مثل: “كيف تجد شريك حياتك في سبعة أيام وبدون معلم” أو “كيفية بناء علاقة ناجحة”. يضاف لما سلف انتشار منصات ومواقع المواعيد على الأنترنيت وتصوّرها لمفهوم جديد للإنسان العاطفي بما هو نتيجة حتمية للضغط الاجتماعي الذي يدفع المرء للبحث عن علاقات رقمية تلبية لاحتياجات عاطفية نمت في ظل ظروف اجتماعية ضاغطة، على أن تصوّر الإنسان العاطفي، بهذا المعنى، هو فهم يوازي بين الرغبات الفردية والمتطلبات الاجتماعية والاقتصادية، مما يعكس التعقيد الذي يكتنف التجارب العاطفية في عالم اليوم. هكذا، تُعبر الهوية الرقمية عن محاولة الأفراد لتكوين صورة مثالية عن ذواتهم، قد لا تعكس بالضرورة واقعهم الحقيقي، من خلال تسويق صور ونصوص مختارة ومُعدّة بعناية، يسعى الأفراد من خلالها إلى جذب انتباه الآخرين وتحقيق نوع من الكذب الرومانسي.

من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الحقول العاطفية على أنها بيئات تتشكل فيها العلاقات الإنسانية، وهي ليست محايدة بطبيعتها، بل تتأثر بالأنظمة الاقتصادية والثقافية السائدة في كل مجتمع. وعليه، يُمكن اعتبار “رأس المال العاطفي” قيمة اجتماعية ونفسية تُمكّن الأفراد من تعزيز مكانتهم الاجتماعية أو تحقيق أهدافهم الشخصي؛ ولعل هذا أن يكون أقصى المقاصد.

4

نقلة ميكيافيلية جديدة؟

ها نحن إذاً أمام تحوّل نوعيّ في كيفية فهم العلاقات الإنسانية والعواطف ضمن سياق الرأسمالية الحديثة؛ تحوّلٌ يعيدُ تقييم دور العواطف في المجتمع المعاصر وصيغ تمثلها باعتبارها أدوات للسلطة والسيطرة.

بهذا المعنى، ترتبط النقلة الميكيافيلية باستغلال العواطف باعتبارها أداة لتحقيق النفوذ وبسط الهيمنة، فضلاً عن كونها وسيلة لتحقيق الغايات السياسية أو الاقتصادية.

ولهذا السبب، يسعى الأفراد إلى توظيف مشاعرهم ومشاعر الآخرين لخدمة مصالحهم، بغية تعزيز مكانتهم الاجتماعية. وفي هذا السياق، تُقيّم كل علاقة بناءً على ما تتيحه من منافع وفوائد محتملة.

تتمثل هذه النقلة الميكيافيلية الجديدة في تغيّر القيم الأخلاقية المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية، إذ قد تتبدل المعايير الأخلاقية تحت تأثير ضغوط الرأسمالية، مما يدفع الأفراد إلى الاستعداد للتخلي عن الروابط العاطفية في سبيل تحقيق مصالحهم الذاتية.

بهذا الخيار، يعكس هذا التحوّل انزياحًا عن القيم التقليدية التي تُعتبر أساسية في كل علاقة إنسانية، مثل الألفة والتضحية والإخلاص.

هكذا، تشكّل النقلة الميكيافيلية الجديدة دعوة للتأمل في الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية للعلاقة المعقدة بين العواطف والرأسمالية، مما يستوجب إعادة النظر في فهم العلاقات الإنسانية لتصبح أكثر صدقًا وعمقًا.

لنتأمل؛

وإلى حديث آخر.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق بدء أعمال رش طبقة «MC» لرصف طريق «كوبري النمرة - الجرايدة» بطول 2.5 كم بييلا
التالى وكيل تعليم كفر الشيخ يتفقد المدارس للاطمئنان على انتظام العملية التعليمية