في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية التي تشهدها قضية الصحراء، تتجه الأنظار صوب بعض الدول الإفريقية المرشحة لتغيير موقفها الداعم للانفصال في الأقاليم الجنوبية للمملكة؛ من ضمنها كينيا، التي تتجه إلى إعادة مراجعة عقيدة سياستها الخارجية وتكييفها مع الرهانات التنموية الكبرى القائمة اليوم على الساحة العالمية والقارية.
ومن شأن هذه المراجعة أن تدفع نيروبي، حسب مهتمين، إلى تغليب مصالحها الاقتصادية وتبني سياسات براغماتية في تدبير علاقاتها مع المغرب؛ وبالتالي تعديل موقفها السياسي والالتحاق بركب الدول الداعمة لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء، الذي دعمته إبان وصول الرئيس ويليام روتو إلى سدة الحكم في سنة 2022 قبل أن تتراجع عنه سريعا تحت ضغوط داخلية كبيرة.
ولم تراجع كينيا سياستها الخارجية منذ سنة 2014، بينما دفعتها التحديات الناشئة التي تواجهها والاتجاهات الجديدة في العلاقات الدولية إلى إقرار مسودة جديدة للسياسة الخارجية الكينية، أكدت من خلالها أن “الحاجة إلى الاستجابة للعولمة وظهور تهديدات أمنية عالمية، بما في ذلك الحروب والصراعات الإقليمية والجرائم العابرة للحدود والإرهاب والتطرف، دفعت كينيا إلى تعديل سياستها الخارجية وإعادة توجيه موقفها تجاه العالم الخارجي وتبني نهج سياسي خارجي جديد”.
وأوضحت المسودة، التي تتوفر جريدة هسبريس الإلكترونية على نسخة منها، أن “التحديات المطروحة على الساحتين الإقليمية والدولية تتطلب من الدولة الكينية تطوير استجابات سياسية مناسبة لها”، مضيفة أن “البلاد ستعمل على استغلال موقعها الجغرافي بما يتحول إلى وجهة فصلة للاستثمار والثقافة والرياضة والسياحة وعقد المؤتمرات. كما ستتعاون مع الدول ذات التفكير المماثل لبناء أطر قوية تستجيب للديناميكيات العالمية المتغيرة باستمرار”.
وتابعت أن “كينيا ستواصل الوفاء بالتزاماتها الدولية بموجب ميثاق الأمم المتحدة، من خلال دعم الحلول السلمية لجميع النزاعات في العالم والانخراط في الجهود الرامية إلى إحلال الأمن والسلام”، إضافة إلى العمل على جعل تدفقات الاستثمارات وتعزيز الشراكات مع الدول والمشاركة في مبادرات الأمن التعاوني من أهداف وأولويات السياسة الخارجية الكينية.
تطورات وبراغماتية
تعليقا على ذلك، قال عبد الفتاح الفاتحي، مدير مركز الصحراء وإفريقيا للدراسات الإستراتيجية، إن “كينيا تعيش وضعا اقتصاديا مزريا؛ وهذا ما تسبب في موجة احتجاجات وأعمال عنف في عدد من المدن الكينية في وقت سابق من هذا العام، على خلفية إقرار الرئيس تعديلات ضريبية في مشروع قانون الموازنة، قبل أن يُضطر إلى سحبها بسبب الضغط الشعبي”.
وأضاف الفاتحي، في تصريح لجريدة هسبريس، أن “هذا الوضع أجبر صانعي القرار في هذا البلد على إعادة النظر في معالم وعقيدة سياسته الخارجية من أجل إعادة بناء اقتصاد يحقق احتياجات المجتمع الكيني. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن كينيا ماضية في اعتماد سياسة براغماتية تقوم على المصالح المتبادلة في العلاقات الدولية، لا سيما في العلاقة مع الدول الصاعدة في إفريقيا كالمغرب، حيث توجد قنوات تواصل قوية بين البلدين”.
وأكد مدير مركز الصحراء وإفريقيا للدراسات الإستراتيجية أن “استقراء التطورات التي تشهدها قضية الصحراء، سواء في أوروبا أو إفريقيا أو أمريكا اللاتينية، يمكن معه القول بأن كينيا تسير نحو نهج البراغماتية والواقعية مع المغرب؛ وبالتالي الدخول معه في شراكات مربحة. وعلى أساس الخطوط الحمراء التي حددتها القيادة المغربية للدخول في أية شراكات اقتصادية وتنموية، يُعد احترام السيادة والوحدة الترابية الوطنية ضرورة أساسية”.
وبيّن المصرح عينه أن “إعادة مراجعة السياسة الخارجية في كينيا يؤشر إلى وعي القيادة الكينية بوجود أخطاء وهفوات يجب تداركها، وستتجه إلى مراجعة العديد من المواقف والقرارات السابقة التي فوتت عليها العديد من فرص التعاون المربح، خاصة مع المغرب”، لافتا إلى أن “هذه المراجعة تتوافق أيضا مع رهانات المملكة المغربية في عمقها الإفريقي، حيث أصبحت الرباط تركز على شرق إفريقيا الذي يضم دولا ما زالت تعترف بالكيان الوهمي، وتوجه موقفها التفاوضي في سياق تدريب هذه المجتمعات على النظر إلى العلاقات الدولية ببراغماتية وواقعية سياسية أكثر”.
مصالح وسياسات
من جهته، أورد محمد الغيث ماء العينين، عضو المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات، أن “الموقف الكيني من المؤكد أنه سيتغير نحو تبني موقف ناضج يأخذ بعين الاعتبار مصالح كينيا ويبتعد عن الطروحات الجزائرية التي تنتمي إلى فكر القرن العشرين المتجاوز”.
وأضاف ماء العينين: “كانت هناك إشارات قبل سنتين في هذا الصدد من طرف الرئيس الكيني الجديد، قبل أن يتم التراجع عنها بسبب ضغوطات قوية جدا؛ لأن هناك بعض الأوساط السياسية الكينية التي ما زالت علاقاتها بالمحور الداعم للانفصال في الصحراء قوية جدا”.
وأوضح عضو المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “المحاولة الأولى باءت بالفشل نتيجة عدم نضج الشروط الذاتية والموضوعية لخروج كينيا بموقف داعم للموقف المغربي بشأن قضية الصحراء؛ غير أن التطورات التي شهدها الملف، سواء من خلال تكريس قرارات مجلس الأمن لسمو مبادرة الحكم الذاتي واستبعادها لطرح الاستقلال ثم مواقف بعض القوى الكبرى في العالم في هذا الصدد، تدفع في اتجاه مراجعة نيروبي لمواقفها في اتجاه دعم الحلول الواقعية التي تطرحها الرباط لتسوية هذا النزاع الإقليمي”.
وأكد المتحدث ذاته أن “المغرب يعرف انفتاحا اقتصاديا على دول غرب وشرق إفريقيا. ثم إن المصالح الكينية تتطلب التعامل مع دول مستقرة ولديها رؤية اقتصادية واضحة، وتعتبر أن تنمية الشعوب أهم من الاعتبارات الإيديولوجية وغير العقلانية في السياسة الدولية”.
وتفاعلا مع سؤال للجريدة حول نطاق تأثير كل من الجزائر وجنوب إفريقيا، باعتبارهما من حلفاء كينيا، على موقفها، شدد ماء العينين على أن “وزن الجزائر لم يعد كما كان في القارة بسبب أوضاعها الاقتصادية الداخلية. أما جنوب إفريقيا، فإن المغرب نجح في جسر الهوة معها وأصبح قوة إقليمية واقتصادية تُؤخذ بعين الاعتبار، حيث توجهت الدول الإفريقية إلى عقد شراكات مع المملكة وتبني نموذجها الاقتصادي والسياسي”.
وخلص المصرح عينه إلى أن “تعامل جنوب إفريقيا مع دول القارة ما زال ينهل من رصيد مانديلا، وتعتبر نفسها دولة أوروبية داخل إفريقيا. كما تعتمد سياسات دعم لبعض الدول، بينما تفتقر إلى سياسات اقتصادية تعاونية وتنموية مع شركائها القاريين، عكس المغرب. وبالتالي، فإن تأثيرها يبقى محدودا في ظل تعاظم الطموحات الاقتصادية للدول، بما فيها كينيا”.