يشكّل تهريب الوقود من العراق معضلة كبرى محليًا وإقليميًا، ودوليًا، إذ يُنظر إليه بوصفه قضية تورّطت فيها أطراف متعددة، بالتزامن مع تقلبات سياسية عالمية قد تحول عملية التهريب إلى مسار آخر.
وبحسب تحليل طالعته منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)، فإن إيران ضالعة في عملية التهريب وتحقّق استفادة مزدوجة.
واللافت للنظر، أن فتح ملف التهريب يأتي بالتزامن مع إجراءات حكومية كانت قد أُعلِنت قبل أيام لتقويضه وتحجيمه، عبر إجراءات يُرتقب تنفيذها بدعم إيراني.
وحذّر محللون من دعم متغيرات وتقلبات قطاع النفط العراقي المستهدف من قِبل الرئيس الأميركي الفائز خلال الانتخابات الأخيرة دونالد ترمب، في إطار تخطيطه لمعاقبة إيران على دعم حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني في الحرب الحالية.
وفي خضم هذه المستجدات، تظهر أسئلة تلح على الأذهان حول كيفية تهريب الوقود من العراق، ومن الأطراف المتورطة إذا كانت الحكومة تتبنّى إجراءات لتحجيمه، بالإضافة إلى الأطراف المستفيدة وحجم العائدات.
كيف يجري تهريب الوقود من العراق؟
تكمن كلمة السر في عملية تهريب الوقود من العراق في "مصانع الأسفلت"، التي تتلقى زيت الوقود (Fuel Oil) بكميات كبيرة وبأسعار مدعومة حكوميًا.
وفي المرحلة اللاحقة يأتي دور شبكة الشركات والأفراد المتورطة في نقل كميات تتراوح بين 500 و750 ألف طن متري من زيت الوقود الثقيل وعالي الكبريت، من المصانع إلى مواقع أخرى للتهريب في العراق وإيران.
ويعادل ذلك إعادة تصدير ما بين 3.4 و5 ملايين برميل شهريًا من المحطات العراقية ومصانع الأسفلت، إلى مواقع أخرى في قارة آسيا، حسب ما أورده تحليل رويترز، نقلًا عن مصادر.
وحدد التحليل مسارين لتهريب زيت الوقود:
الأول: استعمال وثائق زائفة لإخفاء مصدر إمدادات زيت الوقود المخصص لبرنامج الدعم الحكومي لمصانع الأسفلت، وتصديره بعد التلاعب في أوراقه.
الثاني: مزجه بمنتجات إيرانية مشابهة وإعادة طرحه في الأسواق بوصفه وقودًا عراقيًا؛ ما يمثّل دعمًا غير مباشر لالتفاف حكومة طهران على العقوبات الأميركية المفروضة على صادرات الطاقة.
مَن المتورّط؟
للإجابة عن تساؤل "من المتورّط؟" في تهريب الوقود من العراق يتعيّن تسليط الضوء على منبع الإمدادات، بدءًا من القرار الحكومي بدعم زيت الوقود إلى مصانع الأسفلت.
ويلمّح الخبراء المشاركون في التحليل إلى نمو عمليات التهريب منذ تولي رئيس الوزراء العراقي الحالي محمد شياع السوداني منصبه عام 2022، بمشاركة أطراف إيرانية.
وتشارك جماعات شيعية عراقية بصورة غير مباشرة في عملية التهريب، عبر وسائل عدة، من بينها: دعم استمرار المتورطين في التهريب بمناصبهم في السلطة، لضمان استمرار قرارات الدعم لإمدادات مصانع الأسفلت، ومنع ملاحقة أنشطة القطاع غير المشروعة.
وحدّد التقرير مجموعة سياسية-عسكرية شيعية داعمة لرئيس الوزراء "السوداني"، مشيرًا إلى أنها مدعومة في الأساس من إيران وخاضعة لعقوبات أميركية.
وتتجه صادرات زيت الوقود العراقي إلى تسجيل أعلى مستوياتها على الإطلاق في نهاية العام الجاري، وفق تقديرات بيانات السفن والشحن.
وتُشير التقديرات إلى تجاوز الصادرات 18 مليون طن بنهاية العام، بما يفوق ضعف صادرات عام 2021.
واتهم التحليل مصانع الأسفلت الحكومية بـ"المبالغة" في تقدير كميات زيت الوقود المدعوم وشركات أخرى "وهمية" تحول إليها الكميات بوصفها مصانع وشركات أسفلت مستحقة للدعم.
كما كشف عن أن هناك "شبكة" تضم أطرافًا متورطة في تهريب الوقود من العراق، على رأسها شركة الصناعات التعدينية المعنية بإدارة مصانع الأسفلت.
ويرصد الرسم البياني أدناه -الذي أعدّته منصة الطاقة المتخصصة- حجم صادرات العراق النفطية منذ عام 2022 حتى الآن:
الإمدادات والأسعار
اتهم تقرير استخباراتي شركة الصناعات التعدينية باستعمال مصنع أسفلت تابع لها في تخزين كميات هائلة من زيت الوقود الثقيل لتصديرها.
واستند التحليل إلى موافقة حكومة السوداني على تراخيص 37 مصنعًا جديدًا للأسفلت، بما يعادل ضعف المرافق الحالية.
ووفق ذلك، يُعد التقرير هذه الموافقات بمثابة "خدعة" للحصول على المزيد من كميات زيت الوقود المدعومة.
وعقب أشهر قليلة من تولي "السوداني" منصبه، خفض سعر الوقود المدعوم من 220 دولارًا/طن إلى ما يتراوح بين 100 و150 دولارًا/طن، وهو معدل يقل عن السعر المعتمد في السوق بين 300 و500 دولار/طن.
واتخذت حكومة السوداني إجراءات مثيرة للجدل، إذ رفعت سعر زيت الوقود المدعوم إلى 369 دولارًا/طن في يوليو/تموز الماضي، مطالبة بمراجعة قدرة مصانع الأسفلت واحتياجاتها الفعلية لزيت الوقود مع تقليص مخصصاتها بنسبة 60%.
وقدّر التحليل أن عائدات الجانب الإيراني من عملية تهريب الوقود من العراق منذ ذلك الحين بلغت مليار دولار سنويًا، بحد أدنى.
وبالنظر إلى اختلاف الكميات والأسعار، رجّح محللون أن تصل العوائد إلى ما بين مليار وما يزيد على 3 مليارات دولار سنويًا.
علاقة إيران
يبرز في قضية تهريب الوقود من العراق دور مهم لإيران، إذ تعول الأخيرة على بغداد في ظل الحصار الاقتصادي الذي تفرضه العقوبات على قطاع الطاقة.
وتستعمل طهران النظام المصرفي العراقي للالتفاف على العقوبات، وتأمين مقدراتها المالية.
وتجني إيران فوائد من وراء عمليات التهريب في بغداد، إذ كانت عادة تبيع وقودها بأسعار مخفضة نظرًا إلى قيود العقوبات، لكنها تحصد عوائد أعلى إذا باعته بصفته وقودًا عراقيًا.
ويجري تهريب الوقود من العراق عبر المواني الجنوبية وأبرزها: خور الزبير وأم القصر، في حين تعد مدينة البصرة موقعًا لعمليات المزج والخلط التي تجري بوثائق زائفة تصنّف الوقود العراقي منتجات ثانوية.
وقد يُمزج زيت الوقود المهرب مع نظيره الإيراني ليغذّي الأسواق بوصفه وقودًا عراقيًا، بسبب تشابه درجات نفطي البلدين، ويجري ذلك بوثائق زائفة لتعزيز تجنّب العقوبات.
ويقود مهندسون عراقيون عمليات المزج خلال النقل من سفينة إلى أخرى، قبل شحنه إلى العملاء الآسيويين، وفق تحليل رويترز.
رد رسمي وخطط أميركا
حاولت منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن) التواصل مع وزارة النفط العراقية، للحصول على رد رسمي حول اتهامات التورط في تهريب الوقود بالتعاون مع إيران.
واقتصر رد الوزارة على عدم توافر معلومات حول هذا الشأن في الآونة الحالية.
أما الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة دونالد ترمب، فيبدو أنها تتخذ تهريب الوقود من العراق ذريعة لمد نطاق العقوبات من إيران إلى بغداد.
وبذلك، قد يتعرّض ثاني أكبر منتج للنفط الخام في منظمة أوبك إلى قيود تطول إنتاج 4 ملايين برميل يوميًا وتصدير 3.6 مليون برميل يوميًا أيضًا، في خطوة قد تمتد تداعياتها إلى سوق النفط العالمية بالكامل.
وقد تستهدف العقوبات الأميركية شركة تسويق النفط العراقي "سومو"، وفق ما نقله موقع إس أند بي غلوبال (S&P Global) عن رئيس شركة رابيدان إنرجي بوب ماكنالي.
ومن شأن العقوبات المرتقبة على بغداد أن تؤثر في استيرادها الغاز من إيران بموجب إعفاءات أميركية؛ ما يهدد العراق بضربة لقدرة توليد الكهرباء.
وحتى إذا لم تُفرَض عقوبات كاملة على صادرات العراق، فإن حكومة ترمب ستفرض قيودًا على حكومة بغداد الحالية لقربها من إيران، حسب ماكنالي.
ويفسّر محللون ذلك بأن استيراد بغداد الغاز الإيراني، والتعاون في مجالات عدة من بينها تهريب الوقود من العراق، سمح بانخراط عناصر موالية لطهران في كل من: وزارة النفط، وشركة سومو.
حرب أميركية صينية
قد تتحول العقوبات الأميركية المرتقبة على قطاع النفط العراقي إلى حرب خفية بين واشنطن والصين، إذ منذ سنوات طويلة يخطط ترمب للاستفادة من خامات بغداد، وفق تصريحات صحفية سابقة له.
ويرجع ذلك إلى حجم اعتماد أكبر الاقتصادات الآسيوية "الصين، والهند" على النفط العراقي.
واقتنصت الصين 41% من صادرات خامات العراق، في حين حصلت الهند على 28%، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ومن جانب آخر تستثمر شركات طاقة صينية عدة في حقول بغداد، ما يضعها في حرب مباشرة مع أميركا حال فرض عقوبات على العراق الذي يعتمد بنسبة 95% من إيراداته على صادرات النفط.
واستهدفت بغداد رفع إنتاجها إلى 7 ملايين برميل بحلول عام 2027، واجتذبت شركات الطاقة للاستثمار في أصولها بما يتيح لها تحقيق أهدافها الإنتاجية.
وتمثل عمليات تهريب الوقود من العراق ذريعة قد تستند إليها إدارة ترمب لتطبيق العقوبات، رغم محاولة رئيس الوزراء "السوداني" إبرام صفقات مع شركات أميركية خلال زيارته الأخيرة لواشنطن في أبريل/نيسان الماضي.
وبجانب محاولات تقييد نفوذ إيران، فإن أميركا ستستفيد من السيطرة على النفوذ الصيني الآخر بالارتفاع في قطاع النفط العراقي، خاصة أن شركات بكين تباشر إدارة 7.27% من مشروعات تطوير النفط والغاز في بغداد.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
المصادر:
- تفاصيل شبكة تهريب الوقود من العراق والأطراف المتورطة، من رويترز.
- خطط الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب لحصار قطاع النفط العراقي، من إس أند بي غلوبال.