يقول ابن خلدون في سفره العظيم (المقدمة): إن الدولة هي السوق الأعظم، ومنه مادة العمران ومعنى قوله إن الحكومات بما تنفقه من أموال على رعاياها ومن تنفقه من نفقات على المشاريع الرأسمالية بأنواعها، هي مادة الأسواق الأساسية، أي النمو بالتعبير الاقتصادي الحديث، فإذا تراجعت الدولة عن الإنفاق فإن ذلك ادعى لتراجع الإنفاق في الأسواق أي تراجع النمو.
لهذا يجب أن يجد الاقتصاد توازنه العام بين ما تنفقه الدولة وبين من ينفقه أفرادها في داخل الاقتصاد، ذلك أن عددا من الدول تعاني من فشل وصول الإنفاق الحكومي للداخل الاقتصادي، كأن يتم احتكاره على عدد من الشركات أو التجار أو حتى القطاعات الاقتصادية، أو أن يتم تصدير هذا الإنفاق للخارج من خلال الاستيراد الجائر أو حتى التحويلات العمالية.
الفساد مشكلة أخرى تواجه الحكومات عندما تتوسع في النفقات، حيث يتم استغلال واستخدام السلطة من أجل تحويل الإنفاق الحكومي والمشاريع لتكوين الثروات الشخصية. كيف يمكن معالجة كل ذلك مع الحفاظ على مستويات مترفعة من الإنفاق الحكومي لتبقى الدولة هي السوق الأعظم؟
الميزانية من أهم الأدوات الاقتصادية التي تسهم في رسم السياسات المالية للدولة، ومراقبة تنفيذها، لكن الميزانية عبارة عن نص تشريعي من أرقام محاسبية تعكس الإيرادات والمصروفات وليست سياسة مالية بذاتها، فهي القائمة المحاسبية التي تنعكس عليها كل القرارات والسياسات، ولذلك فإن رسم هذه السياسات هو الذي يصنع الفرق.
في مقابل ذلك فإن الميزانية الحكومية أداة حوكمة فهي تحقق مبدأ لشفافية من جانب ومبدأ الرقابة من جانب اخر، لهذا فهي وإن كانت قائمة مالية فإن عملية مراقبة الإنفاق وتحليله التجاوزات في الإنفاق ومسبباتها، هي أداة مهمة للبقاء على المسار. وفي نظري أن رؤية السعودية 2030 قد حققت للميزانية السعودية هذا التحول المهم لتحقق مفهوم الدولة هي السوق الأعظم.
فالنمو القوي في الإيرادات غير النفطية هو الدليل الأبرز على تحقيق هذا المفهوم، فمن خلال التوجيه السليم لمسارات الإنفاق الحكومي ومراقبته بصرامة، ومن خلال الإصلاحات الشاملة في منظومة الدعم تصل إلى الفئات التي تحتاج إليه استطاعت الحكومة أن تحقق نموا متواصلا في الإيرادات غير النفطية نتيجة لنمو الإنفاق الأسري. هذا يتضح بجلاء من وصول الدعم الحكومي للفئات المستهدفة إلى أكثر من 181 مليار ريال من حجم الميزانية أي أكثر من 14% وهو رقم كبير لكنه يحقق مفهوم السوق الأعظم، حيث تم إصلاح منظومة الدعم لتصل إلى الفئات المستحقة لها، ما حد من المشكلات القديمة، التي كانت تصل بهذه النفقات إلى غير مستحقيها، ما تسبب في ضعف الإيرادات غير النفطية ولم يحقق النمو المطلوب لها.
فبحسب ما جاء في تقرير الميزانية العامة للدولة لعام 2025 نسخة ميزانية المواطن، أن حجم الدعم الاجتماعي في السعودية من المتوقع أن يبلغ 181.1 مليار ريال في 2024، وأن من أبرز أوجه الدعم الاجتماعي تخصيص 41.5 مليار ريال ضمن دعم برنامج حساب المواطن في العام 2024، وتخصيص 35.8 مليار ريال للضمان الاجتماعي، منوهة بأن دعم تثبيت سقف السعر المحلي للبنزين من المتوقع أن يبلغ 13.1 مليار ريال في العام الحالي.
هذا النمو المتواصل في توجيه الدعم الحكومي يصل مباشرة إلى أبناء الشعب الذين يقومون بدورهم في توجيهه نحو الأسواق، يقود في النهاية إلى تنامي إيرادات الدولة غير النفطية، فإنفاق الشعب على احتياجاته داخل الاقتصاد السعودي يقود إلى نمو الأسواق تنوعها، لكن هذا يتطلب مسارات داعمة من جانب الجهات الفاعلة وحوكمة دقيقة للأمور.
في هذا المسار حققت السعودية إنجازات بارزة لاشك فيها فيما يتعلق بنمو الأسواق، الدليل على ذلك هو تراجع معدلات البطالة، حيث انخفضت بشكل جوهري، فالاختراقات التي نشهدها في مجالات البطالة تأتي مع تحقيق اختراقات مماثلة في أرقام السياحة، كما أن الأرقام التي تنشرها مؤسسات العناية بالمؤسسات الصغير والمتوسطة يقود بدوره نحو اختراق مماثلة لهذا النمو في الإيرادات غير النفطية، إذا فالأدلة الاقتصادية و الشواهد تؤكد على دور الحكومة السعودية الجديد كمحرك للسوق الأعظم، من خلال الإصلاحات الحقيقة في منظومات الدعم وحوكمة الإنفاق الحكومي.
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.